الغياب الصامت
ثمة لحظات لا يكون فيها الغياب مجرد نهاية، بل بداية لحضور آخر أكثر اتساعاً.
ذلك الذي نفتقده لا يرحل حقاً، بل يتخفى في زوايا ذاكرتنا، يتنفس بين تفاصيل الأيام، يكمن في المسافة بين نبضة وأخرى.
في قلب الاشتياق تنمو أسئلة الوجود بصمت:
لماذا يصبح الآخر امتداداً لذواتنا؟
كيف يترك فينا هذا الأثر العميق، حتى حين يغيب، نظل نحيا به، ونرتب تفاصيلنا على إيقاع صورته الغائبة؟
على مواعيد صوته
حتى الوقت يتوقف عنده
الاشتياق هو ذلك الحبل الرفيع الذي يشدنا إلى جهة لا نراها، جهة نعبر نحوها بالذكريات والأمنيات المؤجلة.
هو وطن صغير يسكن بداخله حين تضيق بنا خرائط الواقع.
ليس افتقاداً عابراً كما يظن من لا يعرف؛
إنه درس خفي في هشاشة الاكتفاء،
تذكير يومي بأننا لا نحيا مكتفين بأنفسنا، بل نحيا بمن نحب، بمن عبروا أرواحنا وتركوا فيها ما لا يُنتزع.
وعلى تخوم الغياب يكتشف الإنسان أن الحضور لا يُقاس بالمسافة ولا بالزمن،
بل بالقدرة العجيبة لهذا الغائب أن يظل فينا… أكثر من كل الحاضرين
الاشتياق ليس مجرد حنين.
إنه نغمة خفية تعزفها الروح في غياب الآخر، لحنٌ لا يسمعه إلا من عاني فراغ الوجود
إنه الحضور الأشد للأشياء حين تغيب.
هو أن تمتلئ الأمكنة بملامحه، رغم أنه لم يعد هنا.
كلما توغل الاشتياق في القلب، كلما ازدادت المسافة اتساعًا بين ما نحن عليه وما كنا نصبحه حين يكون معنا.
فنحن لا نشتاق إليه فقط، بل نشتاق لأنفسنا في قربه، لذلك الجزء الذي استيقظ فينا حين لمس دفء حضوره أرواحنا.
يظن العابرون أن الاشتياق ضعف.
أما العارفون فيدركون أنه اعتراف عميق بفقر الإنسان أمام معنى الحب.
أن تكون مشتاقًا، هو أن تعترف بأن ثمة من استطاع أن يترك أثره في نسيج روحك، كمن نقش اسمه على جدران داخلك، نقشاً لا يمحوه الغياب ولا يغسله النسيان.
الاشتياق ليس فقط تذكُّر ماضٍ كان؛ بل هو توق دائم لاحتمالات لم تُولد بعد.
نشتاق لما عشناه، ولما كنا سنعيشه لو أن الزمن كان أكثر رحمة.
لأحاديث مؤجلة، لابتسامات مقموعة، لنظرات مرت سريعة ولم تكتمل.
هو مساحة بين الكينونة والعدم؛
هو تلك المنطقة الرمادية التي يقف فيها القلب، لا إلى الحضور ينتمي ولا إلى الغياب يستكين.
فهو يسمع صدى الصوت الغائب في صمته، ويرى ملامح الوجه الغائب في الفراغ الذي يزداد اتساعًا كل يوم.
في كل لحظة اشتياق، يتعرّى الإنسان من ادعاءات القوة، يعود كما خُلق أول مرة: هشًّا، صغيرًا، يبحث عن دفء الآخر كي يكتمل.
ولعل أعظم أسرار الاشتياق أنه يمنح الغائب قوة الحضور، ويمنح الحاضر هشاشة الرحيل.
الاشتياق هو قصيدة الغياب،
يكتبها القلب كلما طرق الليل أبواب الذاكرة
د . صباح الجهني