جلسة
نفسية في عمق اللاوعي..
هناك لحظةٌ في الحياة يتوقف فيها الإنسان عن مساءلة
العالم، ويبدأ في مساءلة نفسه.
حين بلغتُ تلك اللحظة، لم أعد أفتّش عن أجوبة في الخارج،
لا في الوجوه ولا في الكتب.. بل بدأت أُنقّب في حطامي، في صمتي المريب، في
ارتباك مشاعري، كمن يبحث عن أثرٍ قديم طُمِس دون شاهد.
كنتُ أعلم أنني لن أعود كما كنت، وأن الرحلة القادمة لن
تكون في الزمان ولا في المكان.
بل في دهاليز روحي.. وفي عمق تلك الرحلة،وجدتني في غرفة
لا نوافذ لها ولا جدران، إلا من كلماتٍ معلقة في الهواء كأنها بقايا جلساتٍ قديمة.
كان هناك طبيب، لا يشبه بقية الأطباء، ولا يتحدث كأحدٍ
من الناس.
فرويد.
لا كاسمٍ في هامش كتاب، بل كمرآةٍ تفضح اللاوعي وتبتسم
بسخريةٍ هادئة.
جلس أمامي، صامتًا، بعينين لا تفتشان عن الكلمات، بل
عمّا يُقال خلفها.
شعرتُ أنني عارية من الداخل، لا أسرار، لا دفاعات، لا
أقنعة.
قلت له، بصوتٍ خرج من أعمق أماكني:
لماذا تؤلمني أشياء لا أفهمها؟ لماذا تُحاصرني أحلامي؟
ولماذا… أنا؟
فأجاب..لا كمن يمنح جوابًا، بل كمن يفتح بابًا إلى غرفة
ظننتُها مغلقة.
دكتور فرويد..في داخلي عالمٌ بلا أفق،رغبات دفنتها،
أفكار لم أجرؤ على لمسها… أهذا هو الجنون؟
فرويد:
ما يُكبت لا يموت، بل يُدفن حيًّا ويظهر لاحقًا بأشكالٍ أبشع(1).
ليس الجنون ما تخافينه، بل الحقيقة. إننا لا نُجنّ من
فرط الألم، بل من فرط المقاومة.
وهل نظل أسرى لهذا المكبوت؟ ألَا مهرب؟ ألَا شفاء؟
فرويد:
الحرية النفسية لا تكون إلا حين نواجه الحقيقة داخلنا، لا حين نُخضعها للصمت(2).
اللاوعي لا ينسى، بل ينتظر. والخلاص لا يأتي بالهرب، بل
بالاعتراف.
أحيانًا أخجل من أفكاري، مما يمر في ذهني… أحقًا النفس
بهذا التناقض؟ بهذا التهتك الخفي؟
فرويد:
الإنسان ليس سيّد بيته النفسي(3).
ما ترينه غريبًا، هو أنتِ، حين تنظرين من مرآة لم تتعرفي
عليها بعد.
والأحلام؟ هل هي صدى النفس، أم خدعتها الكبرى؟
فرويد:
الحلم هو الطريق الملكي إلى اللاوعي(4).
كل حلم يحمل رغبةً أُجبرت على التخفي. نحن لا نفسّره، بل
نكشف رموزه، كما نُفكّ شيفرة روحٍ مشفّرة.
أشعر بالذنب لمجرد أنني أرغب. لماذا؟ أهو صوت الفطرة أم
وَهْم التربية؟
فرويد:
الضمير ليس صوتًا إلهيًا،بل أثرٌ من صراع طويل بين الرغبة والمنع(5) .
نحن لا نشعر بالذنب لأننا أذنبنا، بل لأننا تجرّأنا أن
نرغب.
حين سكت، لم ينتهِ الكلام، بل بدأتُ أسمعه بداخلي،
في أماكن لم أصلها من قبل.
خرجتُ من تلك الجلسة لا بشفاء، بل بمرآة.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أرى نفسي كما لم أرها من قبل..مزيجًا
هشًّا من الرغبة والمقاومة، من البراءة والمكيدة، من النور..والظل.
خرجتُ
من تلك الغرفة الصامتة..من عيني فرويد التي لم تغادرني ، حاملةً بين نظراتها كلّ
ألغازي.
وجدتُ نفسي على مقعد الكرسي،تحت ضوء شمس مهتزّة تتسلل من
النافذة،صوت الشارع يتسلل إلى مسامعي،وهذا العالم الخارجي..صار غريبًا،كأنه يحاول
أن يخبئ شيئًا،وأنا كنت أعرفه قبلاً،لكنّي لم أعد أراه.
رائحة القهوة الباردة لا تزال عالقة في المكان،ورائحة
الورق الممزق في كتابٍ مهجور،همسات الكلام التي تُرددها نفسي بين الصمت،بين ما
أريد أن أقول وما أخاف أن أقرّ به.
حملتُ نفسي على الوقوف،لكنّ خطواتي كانت ثقيلاً،وكأنّني
أمشي على حبالٍ مشدودة،ربما كانت هذه هي الرحلة الحقيقية:
العودة إلى الحياة،مع مرآة جديدة.. أكثر وضوحًا،وأكثر
قسوة.
لكن في هذه القسوة،وجدتُ بعض السلام،سلامًا خافتًا،ينمو
من صدق المواجهة،لا من صخب الإنكار.
ـــــــــــ
(1)من تفسير الأحلام
(2)من محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي
(3)من الأنا والهو
(4)من تفسير الأحلام
(5)من قلق في الحضارة
د. صباح الجهني