الجمعة، 27 يونيو 2025

المرأة في مرآة الفلسفة والأدب

 






بين احتقار نيتشه ورقّة تشيخوف: قراءة في ضعفٍ منسوب وصمتٍ مفكَّر فيه


في تضاريس الفكر وتعرجات الأدب، تلوح المرأة أحيانًا كرمزٍ غامض، وأحيانًا ككائنٍ نابض بالحياة، يتأرجح بين القوة والخذلان، بين النداء والصمت. وفي هذا التردد الأزلي، نجد صورتها تتجاذبها رؤيتان متناقضتان: نيتشه الذي رآها خطرًا مموَّهًا بالرقة، وتشيخوف الذي رآها إنسانًا يتكلم أحيانًا بصوت، وغالبًا بدمعة.


حين نقرأ نيتشه، نشعر أننا أمام عاصفة فكرية تهدم كل يقين مستقر. فكرٌ ثائر، لا يرحم الثوابت، ولا يهادن المفاهيم. لكنه حين التفت إلى المرأة، لم يُجدد الخطاب، بل وقع في فخّ قديم؛ رآها كائنًا هشًا، غريزيًا، لا يعيش إلا في ظلّ الخضوع، ويذبل حين تمنحه الحرية. في أكثر عباراته شهرةً – وربما أشدها قسوة – قال:


“أتذهب إلى المرأة؟ لا تنس السوط.”


ليست العبارة مجرد دعابة عابرة، بل تصورٌ كامل يُحمّل المرأة دور الفتنة والخطر، لا بوصفها قوية، بل لأنها تستدرج القوة إلى فخ الضعف، وتربك السادة بإغوائها الناعم. في فلسفة نيتشه، المرأة لا تشارك في “إرادة القوة”، بل تُهددها من الداخل، بوصفها طفلة متنكرة، ناقصة، غير عقلانية، وعاجزة عن الصداقة، بل عن مواجهة الحقيقة.


الأنوثة – عند نيتشه – ليست تجربة إنسانية، بل استعارة رمزية للفوضى والضعف، وهي نقيض “الرجل-السيد”، الذي يتجسد فيه العقل والتفوق والإرادة. وهكذا، فإن نيتشه – رغم تمرّده – كرّس الثنائية ذاتها التي زعم أنه يهدمها.


لكن بعيدًا عن فجاجة نيتشه، وفي زاوية هادئة من الأدب الروسي، كان أنطون تشيخوف يكتب شيئًا مختلفًا تمامًا. لم يضع المرأة على منبر التقديس، ولم يجرّدها من إنسانيتها. كتبها كما هي: مرهقة، حالمة، ضاحكة بعينٍ دامعة، باحثة عن معنى وسط ركام الحياة اليومية.


تشيخوف لم يكن واعظًا، ولم يتخذ موقفًا أخلاقيًا حادًا. بل كان يصغي. يصمت أمام وجعها، يكتب دمعتها كأنها لغة، وصمتها كأنه نداءٌ خفي. المرأة في أعماله لا تمثل الضعف، ولا الشر، بل الوجود الإنساني بكل تعقيداته. هي التي تنتظر، وتحب، وتخون، وتغفر، وتكتب رسائل لا تصل.


في “الشقيقات الثلاث”، تقول ماشا:


“أريد أن أعيش… أن أعيش، وأحب، وأتعلم… لكن الحياة تمضي، ولا شيء يحدث.”


جملة واحدة كافية لتلخّص وجعًا صامتًا تعيشه ملايين النساء، حيث تمر الأيام بلا معنى، والأحلام تُطوى بصمت.


ما فعله تشيخوف أنه لم يحاول تفسير المرأة، بل منحها مساحة لتكون. لم يُخضعها للفكر، بل تركها تمشي في النص، تتنفس، وتتناقض، وتنهار ببطء أمام القارئ، لا لتثير شفقته، بل لتجعله يرى هشاشته في مرآتها.


وفي المسافة بين نيتشه وتشيخوف، تتبدّى المرأة ككائن لا يحتاج إلى سوط، ولا إلى أريكة تحليل نفسي. لا تطلب الترويض باسم الإرادة، ولا الإنقاذ باسم الشفقة. ما تحتاجه هو أن تُكتب بصوتها، لا عن صوتها.


نيتشه، برغم عبقريته، وقع في شرك الرمز، حين جعل من المرأة استعارةً للاضطراب، لا كيانًا حرًّا قادرًا على التعبير. أما تشيخوف، فقد كتب من موقع الطبيب لا الفيلسوف؛ لم يكن هدفه أن يُخضع المرأة لفهمٍ نظري، بل أن يُنصت لصوتها حتى من خلال سكوتها.


وفي الختام، قد تظل المرأة – في أعين نيتشه – “لغزًا لا يُحلّ إلا بالحمل”، لكنها – في عالم تشيخوف – إنسانٌ لا يُفهم إلا بالتعاطف.


فهل نحتاج فعلًا أن نفهم المرأة؟

أم يكفي أن نترك لها الحق بأن تكون… بلا تفسير، ولا ترويض، ولا أحكام؟


د . صباح الجهني 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدين والتقليد مواسم متقلبة بين الخوف والعادة

  صراع  البشر بين الدين والتقليد: مواسم متقلّبة بين الخوف والعادة ما بين لحظة خوفٍ عميق وصوت ضميرٍ مرتجف، يتشبّث الإنسان بالدين. وما بين رخا...