بلد الغربة… حين تسكننا
الوحشة أكثر من المكان
نحن من نصنع الهدوء، بأفكارنا، بتصرفاتنا، بطمأنينة
نختلقها رغم العواصف.
ونحن من نصنع القلق، نُضخّمه حتى يغدو وحشًا نخشاه، مع
أننا نحن من زرعناه في أول الطريق.
أقول هذا وأنا مبعثرة من الداخل، تتنازعني أفكار لا
تهدأ، ومشاعر لا تستقر.
أخشى ظلام الخارج، لكن الأشد ظلمة هو ما يُقيم في الداخل..
حين تفقد الروح بوصلتها، وتجلس في مكانها خالية، لا تحس، لا تشعر، وكأنها غادرت
الجسد بهدوء دون أن تُخبره.
العقل لا يزال يتمسك بكلماته المطمئنة: كل شيء بخير.
لكن الروح؟
تتساءل: لماذا تسخط الحياة علينا بهذا الشكل؟
لماذا نشعر أحيانًا أننا نقف في قلب عالم لا يعترف
بوجودنا، ولا يعنيه ما نحمله من شقاء أو حُلم؟
ورغم ذلك، لا أفقد الأمل.. أُقاوم، أُغامر، أفعل ما لا
يُفعل، وأمضي بخطى تتجاوز كل معقول وكل مألوف.
لن أستسلم في منتصف الطريق، فثمة شيء بداخلي ما زال
حيًّا، ولو كان صامتًا.
لكني أرى العالم من حولي يترصّد..يراقب،ينتظر سقوطًا أو
انكسارًا أو تراجعًا.
حتى أولئك العاجزين عن تحقيق شيء يُذكر، لا يتقنون سوى
الأكل والنوم، وطقوس الاستراحة والإنجاب.
ويحسبون ذلك إنجازًا!
أحدهم يتفاخر به وكأنه فتح الأندلس، والواقع أنه لم يفتح
حتى نافذة على روحه.
هؤلاء الذين يتوهّمون الفهم، لكنهم لا يعقلون.
تتراكم حولنا أفكار ومعتقدات كبُرنا وهي تُقدّس، تُفرض،
تُكرر حتى باتت صخرًا لا يلين.
تلك الثوابت الراسخة… هل يمكن أن تتغير؟
هل تظن أنها ستتبدد في بلد الغربة؟
بالطبع.. لا.
فالغربة ليست جغرافيا، بل حالة.
الغربة ليست هناك…
إنها هنا، في الداخل.
إنها حين نكون غرباء عن أنفسنا، حين نعيش في وسط مكتظ
ونشعر أننا معزولون تمامًا.
حتى من يبتعد عن مدينته، عن شارعه، عن حارات طفولته،
يشعر بها..فما بالك بمن يحمل قلبًا لا يجد له موطنًا على وجه الأرض؟
الغربة ليست في اختلاف اللغة أو الطقس أو العادات، بل في
ذلك الصمت العميق بينك وبين الآخرين، حين لا تجد من يفهمك، حين لا تستطيع حتى أن
تشرح نفسك.
الغربة… هي أن تكون في العالم، دون أن يكون العالم فيك،لكنني
أؤمن رغم كل شيء، أن الغربة ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها.
أن الوحشة قد تكون تمهيدًا لاكتشاف أعمق للذات، وأن هذا
الفراغ الذي يربكنا قد يكون مساحة يُعاد فيها بناء الروح من جديد.
ربما نحن لا نضيع، بل نتحوّل.
لا نختفي، بل نتخفّى لننضج بصمت.
سيأتي يوم نشعر فيه أن هذا التيه الذي أحاط بنا، كان
ضروريًا لنصبح من نحن.
سنعود لأنفسنا، يومًا ما، أكثر دفئًا، أكثر فهمًا، وأكثر
قربًا من كل ما كنّا نظنه بعيدًا.
د. صباح الجهني