دفاتر الحنين
حين يصبح الحب ذكرى لم تولد بعد
ذاك الحب لا يموت.
يتحول إلى ظلّ، إلى نغمة عابرة في لحظة صمت،
إلى طرف غيمة تمرّ في السماء، فنحني رؤوسنا دون أن ندري لماذا.
أحيانًا، لا نكتب الرسائل كي تُقرأ.
نكتبها لنحرر صوتًا كان حبيس الصدر لسنوات.
نكتب، لأن الاعتذار المتأخر قد لا يصل إلى الآخر،
لكنه يصل إلينا؛ إلى الطفلة التي كناها، والمرأة التي خافت أن تُحب، فهربت.
الاعتذار الخافت
الاعتذار الحقيقي لا يُقال بصوت مرتفع.
هو همس في الداخل، فعلُ شفاءٍ لا مجاملة.
أن تهمس لنفسك:
“نعم، خفت. نعم، لم أكن عادلة.
لكنني الآن أرى، وأفهم… وربما أغفر.”
الاعتذار شجاعة مواجهة الذات بلا أقنعة،
أن تعترف بأنك حين هربت من الحب،
كنت تحاول النجاة من نفسك، لا منه.
الرجل الذي لم يقل “أحبك”
لم يقلها، لكنها كانت تعيش في يديه،
في عينيه، في سهره الطويل وهو بجوارك دون أن يشتكي.
لم يكن شاعرًا ولا بارعًا في اللغة،
لكنه كان صادقًا بما يكفي ليبقى حين رحل الجميع.
ذلك النوع من الحب لا يُنسى،
لأنه لا يُفسر، لا يُحكى،
بل يُعاش كصلاةٍ صامتة،
كأن القلب عرف الطريق إليه دون حاجة لبوصلة.
حب خارج السوق
في زمنٍ تُقاس فيه العلاقات بالعائد والمكاسب،
كان حبكما خسارةً عظيمة… لكنها خسارة تشبه النجاة.
لم يكن “مفيدًا” كما يريد العالم،
لكنه كان كافيًا لروحك في لحظة من الزمن.
والكفاية، يا صديقتي، عملة نادرة في زمن البورصة.
الحنين ليس مرضًا
حين تشتاقين إليه، لا تشتاقين لرجلٍ فقط،
بل تشتاقين لنفسك التي كنتِها في حضرته:
لصوتكِ الخافت، لنظرتكِ النقية، لأحلامكِ التي لم تخونيها بعد.
ربما لن يعود.
وربما لن يعرف يومًا أنكِ كتبتِ عنه كل هذا.
لكنه سيبقى هناك…
كنجمة لا تُرى لكنها ترشد السفن في البحر المظلم.
وأخيرًا…
الحب الذي لا يكتمل لا يموت.
إنه يتخذ شكلاً آخر:
حكمة، نص، صلاة تُقال في الخفاء.
المصالحة الحقيقية ليست مع من غادر،
بل مع تلك الذات التي كنّاها حين غادر.
أحيانًا نلتقي بمن كان يمكن أن يكملنا،
لكن الوقت كان مشغولًا بأحلام غيرنا.
لم يكن الحب فشلًا،
بل كان نجمة مررنا بها في زمن مطموس،
وتركت فينا نور البوصلة.
وأنا سمعته في داخلي، كثيرًا.
كلما نظرتُ إلى ماضٍ لم أعد إليه،
لكنه يعود إليّ مع كل ذكرى.
ربما كنتُ أنا ذاك الذي لم يقل “أحبك”،
لكن كل ابتسامة مقهورة، كل صمت طويل،
كان يحملها دون أن أعرف كيف أقولها.
الحب لا يحتاج سببًا ليكبر،
ولا سببًا ليبقى،
هو فقط جزء منك…
جزء لم تدرك وجوده حتى بدأ بالرحيل.
الحنين ليس رجوعًا،
بل إحساس بأنك كنتَ حقيقيًّا في لحظة ما،
وأن روحك لم تخن يومًا… حتى وهي تهرب.
لا أعلم إن كنا سنلتقي ثانية،
لكنني أؤمن أن من أحبوا بصدق،
يلتقون في مكان لا تصله الكلمات،
لكن تصله النيات.
المصالحة ليست مع الماضي،
بل مع الذات التي عاشت ذلك الحب،
وبقيت رغم الخوف والصمت… بطلة.
د. صباح الجهني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق