لم
أعد أطيق تلك النظرة التي تتكرر،كلما حاولت أن أبدو بخير.
نظرة
التوقع..نظرة من يعتقد أنني أملك شيئًا أقوله،حكمة ما،جملة منمقة قادرة على تضميد
الشروخ..لكن الحقيقة؟
أنا لستُ حكيمة.
ولا
عاقلة بما يكفي لأمنح أحدًا كلماتٍ دافئة،تليق بمقام الألم.
كل
ما في الأمر أنني تعلمتُ الصمت.
تعلمته
لأن الحديث في مجتمعٍ مثل هذا لا ينفع،لأنه يُسرّبك خلسة نحو الخيانة.
نعم
الخيانة..خيانة ذاتك حين تُجبر على التصرف بنُبل وأنت تغلي من الداخل،خيانة شعورك
حين تبتسم وأنت تتفتّت،خيانة لحزنك حين تلوّح للحياة بأنك أقوى مما أنت عليه
فعلًا.
هم
لا يريدونك حكيمًا،هم فقط يريدونك مُروّضًا.
والحكمة
في عرفهم،لا تحتاج لشيء سوى إتقان الغباء.
غباءٌ
ناعم، يمرّ على الوجوه مبتسمًا، يختزل الحياة في قهوة ..ومثل ويصفّق له الجميع.
لكنني،
في خلوتي،أعرف أني لستُ بخير،وأعرف أن ما يسمونه حكمة ليس سوى طلاء باهت للهروب.
وأعرف
أنني رغم كل شيء، ما زلت أقاوم أن أتحول إلى نسخة مطابقة منهم.
لكن
القهر الداخلي؟
ذلك
لا يُروّض..إنه الوحش الصامت الذي ينمو في العتمة، لا يُرى، ولا يُقال، ولا يُشفى.
القهر
ليس صراخًا ولا بكاءً،إنه ما تبقّى بعد أن يخذلك الجميع، وتخذل نفسك أيضًا حين
تصمت.
إنه
شعور كثيف لا يُوصف،كأن روحك تسقط داخلك ولا تجد يدًا واحدة تلتقطها.
الخذلان مؤلم،لكنّ
القهر الذي يليه أشد فتكًا،لأنه لا يأتي من الآخرين فقط، بل منك أنت،حين تفهم
متأخرًا أنك كنت تسند كل هذا الثقل على وهم.
أنا لست بخير.
ولا أرغب أن أكون بخير
على الطريقة التي يريدونها.
أنا فقط أقاوم،بلا
حكمة، بلا بطولات،فقط… بكرامة مرتجفة، ترفض أن تموت بصمت.
في تلك الزاوية من
الغرفة، حيث الضوء باهت والهواء ثقيل، جلستُ أراقب ظلّي على الجدار.
كان
الصمت ممتدًا كصحراء، لا صدى فيها إلا لأنفاسي المرتبكة.
كل
ما حولي بدا طبيعيًا..الكوب الفارغ، الستارة التي لا تهتز،الساعة التي تمضي دون
وجل.
لكن داخلي؟كان إعصارًا.
حاولت أن أُخرِس الصوت
في داخلي، أن أضع عليه وشاحًا من الإنكار، أن أقول له: اصمت، لا وقت الآن..لكنه لم
يصمت.
كان
صراخها داخلي أكبر من كل المحاولات،أكبر من قدرتي على التظاهر،أكبر من ابتسامتي
التي علّقتها على وجهي كقناع.
كانت
تتحدث في رأسي..ليس بصوتٍ مسموع،بل بإلحاح الذكرى، بثقل الموقف،بارتجاف اليد حين
يُذكّرها كل شيء..كنت أظن أنني عبرت، أن ما مضى دفنته تحت ركام الصمت الطويل..لكن
الخريف يعود دائمًا، ولو في عزّ الصيف.
صراخها
لم يكن حادًا..لم يكن واضحًا حتى..كان مثل طنين قديم في أذن الذاكرة، مثل صدى جملة
قيلت ذات وجع ولم تُعتذر.
كل
الأشياء حولي تحوّلت إلى شهود:
الكرسي
المهتز، الورقة المطوية في الدرج، صوت الماء في الحمام..وحتى المرآة التي تجنّبت
النظر فيها..تسللت إلى المطبخ كمن يهرب من نفسه..سكبت قهوتي ببطء،ارتعشت يدي.
تذكّرت
كيف كانت ترتجف يدها وهي تُخفي الرسالة،وتقول: لا شيء… فقط فاتورة.
لا
شيء.
كانت
دائمًا تجيد إخفاء كل شيء خلف لا شيء..وأنا كنت أجيد التصديق.
جلست..شربت
نصف القهوة..ثم سمعت ذلك الصوت مجددًا… صراخها.
لم
يكن صوتًا يُسمع بالأذن..كان صوتًا يُسمع بالعظم..بالشعور.
كنتِ
تعلمين.
قالتها
داخلي، بصوت مكسور..حاد.. لا رحمة فيه.
نظرت
إلى السقف،لا شيء سوى شرخ قديم،لكنه الليلة بدا وكأنه يمتد،
لكنني
رغم كل شيء،ما زلت هنا.
أرتّق
نفسي كلّ مساء بخيط من الصمت،وأجمع شتات ذاكرتي كمن يُلملم زجاجًا مكسورًا لا
ليستعمله،بل فقط كي لا يؤذي أحدًا حين يخطو عليه.
ربما
لا أعرف كيف أكون بخير،لكنني أعرف كيف لا أنهار بالكامل.
وهذا
– في زمنٍ كزمني – كافٍ جدًا.
أنا لا أبحث عن خلاصٍ مبهر،ولا أرجو نهاية سعيدة تُصفّق
لها الأيام،
كل
ما أريده أن أستطيع الوقوف كل صباح،دون أن يئنَّ داخلي من وجعٍ مؤجل،أن أتنفس دون
أن أُذكِّر نفسي كيف.
أنا
لا أُريد الكثير،فقط لحظة صدقٍ لا أُضطر فيها للتظاهر،وصوتًا لا يُحاكم ضعفي،وهدوءًا
يُشبه حضنًا لا يسألني عن شيء.
هذا
كل ما تبقّى مني،كائنٌ هش، لكنه واعٍ،ينزف ببطء.. لكنه لا يُفرّط في كرامته.
ولو
كان في هذا العالم موضع للكرامة المرتجفة،فأنا..ما زلت أحاول البقاء فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق