هي ليست سوى مرآة لأولئك المنكسرين، الذين ترتعش أرواحهم
وتفضحهم دموع لا يخجلون منها…أو لعلهم نسوا كيف يخجلون.
وجع متلبّس يتكئ على وجوه باهتة، وأعين فقدت القدرة على
الحُب.
يرتفع صوت القبح في ملامحهم، وتخبو فيهم إنسانيتهم.. تتسلل
الكراهية من الشقوق الضيّقة، من الهمسات المختنقة، من النظرات التي تسكنها
المرارة.
تسقط على كل علاقة لم تُبنَ على المحبة،وتهدم كل بناء لم
يُدعّم بالعدل.
تترك خلفها ركامًا نابضًا بالألم، وذكريات مبتورة كأثاث
قديم في بيت مهجور.
ثم بكل صلف، تقف فوق الخراب، ترقص على الرماد كأنها
انتصرت،
لا تبالي بمن انكسرت أرواحهم، ولا بمن بردت قلوبهم.
فهي لا تعرف لغة البناء، ولا تؤمن إلا بسقوط الأشياء..ومع
ذلك، فإنها لا تنتصر.
فالحب مهما غاب، يعود كمن يعيد طلاء الجدران بعد عاصفة.
والقلوب التي لم يُطفئها الظلام، لا تمكث طويلًا في
متاهة الغضب.
تسللت كما تتسلل الغيرة: خافتة، مرتبكة،همسة خبيثة قالت:
لماذا لا تكون حياتك مثل حياتها؟
ظننتها لحظة عابرة..شقًّا في الجدار.
لكنها وجدت مكانها،في صدرٍ كانت تراكمت فيه الأسئلة،
وتيبّست فيه نُتف الفرح.
الكراهية لا تولد عاصفة، بل نقطة صغيرة داكنة في لوحة من
نور،تكبر كلما قارنّا، كلما قلّ شكرنا، وكلما أطلّ الآخر من مرآتنا.
رأيتها في ابتسامة صديقة، سؤال يصرخ: لماذا هي؟ ولماذا….؟
رأيتها في انعكاس امرأة تتزيّن بالصبر، لكنها تتآكل من
الداخل.
لم تكن الكراهية موجهة إليها..بل كانت ألمًا مستترًا،
عجزًا عن الفهم، صرخة تبحث عن عدوّ خارجي..كي تهرب من مرآة الداخل.
الغيرة صدع صغير في جدار الروح،يمتدّ بصمت، ثم فجأة
ينهار كل شيء.
والحسد لا يصيب المحسود،بل يحوّل صاحبه إلى ظلّ هزيل،
عالق بين الندم واللاشيء.
صرنا نغلف عجزنا بالكراهية،نُخفي خيبتنا تحت قناع الغضب،لكنها
كانت غطاءً شفافًا،يكشف قبح ما نحاول ستره.
لم ننتصر..لم نشفِ الجرح،بل ازددنا فراغًا ووحشة،أقرب
إلى ما كنّا نكرهه،وأبعد عن أنفسنا.
حتى جاءت الحقيقة: أن الكراهية لا تحرق إلا حاملها،وأن
الغيرة، حين تسكن القلب، تسلبه ملامحه الجميلة.
فكيف تبني الكراهية، وهي بدأت من رغبة في التهام النور؟
الآن، وأنا أقف على الأطلال،أحاول أن أزرع شيئًا آخر.. صدقًا،
قناعة، وطمأنينة لا ترتبط بأحد.
أدركت أن ما تهدمه الكراهية ليس سوى وهمٍ كان يجب أن
يسقط.
فلا عاصفة تدوم، ولا رماد يخلو من جمر ينتظر قبس أمل.
وربما.. كان هذا السقوط ضرورة،كي أنجو من زيفٍ كنت أظنه
علوًّا.
د. صباح الجهني