الأحد، 8 يونيو 2025

رقصة الكراهية




الكراهية لا تهدم إلا بيوتًا واهنة.. تسكنها العتمة وتنخرها الرطوبة والصمت..لا تستأذن حين تأتي، بل تقتحم بعنف الرياح العمياء.

هي ليست سوى مرآة لأولئك المنكسرين، الذين ترتعش أرواحهم وتفضحهم دموع لا يخجلون منها…أو لعلهم نسوا كيف يخجلون.

وجع متلبّس يتكئ على وجوه باهتة، وأعين فقدت القدرة على الحُب.

يرتفع صوت القبح في ملامحهم، وتخبو فيهم إنسانيتهم.. تتسلل الكراهية من الشقوق الضيّقة، من الهمسات المختنقة، من النظرات التي تسكنها المرارة.

تسقط على كل علاقة لم تُبنَ على المحبة،وتهدم كل بناء لم يُدعّم بالعدل.

تترك خلفها ركامًا نابضًا بالألم، وذكريات مبتورة كأثاث قديم في بيت مهجور.

ثم بكل صلف، تقف فوق الخراب، ترقص على الرماد كأنها انتصرت،

لا تبالي بمن انكسرت أرواحهم، ولا بمن بردت قلوبهم.

فهي لا تعرف لغة البناء، ولا تؤمن إلا بسقوط الأشياء..ومع ذلك، فإنها لا تنتصر.

فالحب مهما غاب، يعود كمن يعيد طلاء الجدران بعد عاصفة.

والقلوب التي لم يُطفئها الظلام، لا تمكث طويلًا في متاهة الغضب.

تسللت كما تتسلل الغيرة: خافتة، مرتبكة،همسة خبيثة قالت: لماذا لا تكون حياتك مثل حياتها؟

ظننتها لحظة عابرة..شقًّا في الجدار.

لكنها وجدت مكانها،في صدرٍ كانت تراكمت فيه الأسئلة، وتيبّست فيه نُتف الفرح.

الكراهية لا تولد عاصفة، بل نقطة صغيرة داكنة في لوحة من نور،تكبر كلما قارنّا، كلما قلّ شكرنا، وكلما أطلّ الآخر من مرآتنا.

رأيتها في ابتسامة صديقة، سؤال يصرخ: لماذا هي؟ ولماذا….؟

رأيتها في انعكاس امرأة تتزيّن بالصبر، لكنها تتآكل من الداخل.

لم تكن الكراهية موجهة إليها..بل كانت ألمًا مستترًا، عجزًا عن الفهم، صرخة تبحث عن عدوّ خارجي..كي تهرب من مرآة الداخل.

الغيرة صدع صغير في جدار الروح،يمتدّ بصمت، ثم فجأة ينهار كل شيء.

والحسد لا يصيب المحسود،بل يحوّل صاحبه إلى ظلّ هزيل، عالق بين الندم واللاشيء.

صرنا نغلف عجزنا بالكراهية،نُخفي خيبتنا تحت قناع الغضب،لكنها كانت غطاءً شفافًا،يكشف قبح ما نحاول ستره.

لم ننتصر..لم نشفِ الجرح،بل ازددنا فراغًا ووحشة،أقرب إلى ما كنّا نكرهه،وأبعد عن أنفسنا.

حتى جاءت الحقيقة: أن الكراهية لا تحرق إلا حاملها،وأن الغيرة، حين تسكن القلب، تسلبه ملامحه الجميلة.

فكيف تبني الكراهية، وهي بدأت من رغبة في التهام النور؟

الآن، وأنا أقف على الأطلال،أحاول أن أزرع شيئًا آخر.. صدقًا، قناعة، وطمأنينة لا ترتبط بأحد.

أدركت أن ما تهدمه الكراهية ليس سوى وهمٍ كان يجب أن يسقط.

فلا عاصفة تدوم، ولا رماد يخلو من جمر ينتظر قبس أمل.

وربما.. كان هذا السقوط ضرورة،كي أنجو من زيفٍ كنت أظنه علوًّا.

                                            د. صباح الجهني


السبت، 7 يونيو 2025

جلسة نفسية في عمق اللاوعي

  


جلسة نفسية في عمق اللاوعي.. 

هناك لحظةٌ في الحياة يتوقف فيها الإنسان عن مساءلة العالم، ويبدأ في مساءلة نفسه.

حين بلغتُ تلك اللحظة، لم أعد أفتّش عن أجوبة في الخارج، لا في الوجوه ولا في الكتب.. بل بدأت أُنقّب في حطامي، في صمتي المريب، في ارتباك مشاعري، كمن يبحث عن أثرٍ قديم طُمِس دون شاهد.

كنتُ أعلم أنني لن أعود كما كنت، وأن الرحلة القادمة لن تكون في الزمان ولا في المكان. 

بل في دهاليز روحي.. وفي عمق تلك الرحلة،وجدتني في غرفة لا نوافذ لها ولا جدران، إلا من كلماتٍ معلقة في الهواء كأنها بقايا جلساتٍ قديمة.

كان هناك طبيب، لا يشبه بقية الأطباء، ولا يتحدث كأحدٍ من الناس.

 فرويد.

لا كاسمٍ في هامش كتاب، بل كمرآةٍ تفضح اللاوعي وتبتسم بسخريةٍ هادئة.

جلس أمامي، صامتًا، بعينين لا تفتشان عن الكلمات، بل عمّا يُقال خلفها.

شعرتُ أنني عارية من الداخل، لا أسرار، لا دفاعات، لا أقنعة.

قلت له، بصوتٍ خرج من أعمق أماكني:

لماذا تؤلمني أشياء لا أفهمها؟ لماذا تُحاصرني أحلامي؟ ولماذا… أنا؟

فأجاب..لا كمن يمنح جوابًا، بل كمن يفتح بابًا إلى غرفة ظننتُها مغلقة.

­     دكتور فرويد..في داخلي عالمٌ بلا أفق،رغبات دفنتها، أفكار لم أجرؤ على لمسها… أهذا هو الجنون؟

فرويد: 

ما يُكبت لا يموت، بل يُدفن حيًّا ويظهر لاحقًا بأشكالٍ أبشع(1).

ليس الجنون ما تخافينه، بل الحقيقة. إننا لا نُجنّ من فرط الألم، بل من فرط المقاومة.

­     وهل نظل أسرى لهذا المكبوت؟ ألَا مهرب؟ ألَا شفاء؟

فرويد:

الحرية النفسية لا تكون إلا حين نواجه الحقيقة داخلنا، لا حين نُخضعها للصمت(2).

اللاوعي لا ينسى، بل ينتظر. والخلاص لا يأتي بالهرب، بل بالاعتراف.

­     أحيانًا أخجل من أفكاري، مما يمر في ذهني… أحقًا النفس بهذا التناقض؟ بهذا التهتك الخفي؟

فرويد:

الإنسان ليس سيّد بيته النفسي(3).

ما ترينه غريبًا، هو أنتِ، حين تنظرين من مرآة لم تتعرفي عليها بعد.

­      والأحلام؟ هل هي صدى النفس، أم خدعتها الكبرى؟

فرويد:

الحلم هو الطريق الملكي إلى اللاوعي(4).

كل حلم يحمل رغبةً أُجبرت على التخفي. نحن لا نفسّره، بل نكشف رموزه، كما نُفكّ شيفرة روحٍ مشفّرة.

­     أشعر بالذنب لمجرد أنني أرغب. لماذا؟ أهو صوت الفطرة أم وَهْم التربية؟

فرويد:

الضمير ليس صوتًا إلهيًا،بل أثرٌ من صراع طويل بين الرغبة والمنع(5) .

نحن لا نشعر بالذنب لأننا أذنبنا، بل لأننا تجرّأنا أن نرغب.

­     حين سكت، لم ينتهِ الكلام، بل بدأتُ أسمعه بداخلي، في أماكن لم أصلها من قبل.

خرجتُ من تلك الجلسة لا بشفاء، بل بمرآة.

ومنذ ذلك الحين، وأنا أرى نفسي كما لم أرها من قبل..مزيجًا هشًّا من الرغبة والمقاومة، من البراءة والمكيدة، من النور..والظل.

خرجتُ من تلك الغرفة الصامتة..من عيني فرويد التي لم تغادرني ، حاملةً بين نظراتها كلّ ألغازي.

وجدتُ نفسي على مقعد الكرسي،تحت ضوء شمس مهتزّة تتسلل من النافذة،صوت الشارع يتسلل إلى مسامعي،وهذا العالم الخارجي..صار غريبًا،كأنه يحاول أن يخبئ شيئًا،وأنا كنت أعرفه قبلاً،لكنّي لم أعد أراه.

رائحة القهوة الباردة لا تزال عالقة في المكان،ورائحة الورق الممزق في كتابٍ مهجور،همسات الكلام التي تُرددها نفسي بين الصمت،بين ما أريد أن أقول وما أخاف أن أقرّ به.

حملتُ نفسي على الوقوف،لكنّ خطواتي كانت ثقيلاً،وكأنّني أمشي على حبالٍ مشدودة،ربما كانت هذه هي الرحلة الحقيقية:

العودة إلى الحياة،مع مرآة جديدة.. أكثر وضوحًا،وأكثر قسوة.

لكن في هذه القسوة،وجدتُ بعض السلام،سلامًا خافتًا،ينمو من صدق المواجهة،لا من صخب الإنكار.

 ـــــــــــ

 (1)من تفسير الأحلام

 (2)من محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي

 (3)من الأنا والهو

 (4)من تفسير الأحلام

 (5)من قلق في الحضارة


                                         د. صباح الجهني 

الأربعاء، 4 يونيو 2025

متى أعود


 



بلد الغربة… حين تسكننا الوحشة أكثر من المكان

 

نحن من نصنع الهدوء، بأفكارنا، بتصرفاتنا، بطمأنينة نختلقها رغم العواصف.

ونحن من نصنع القلق، نُضخّمه حتى يغدو وحشًا نخشاه، مع أننا نحن من زرعناه في أول الطريق.

أقول هذا وأنا مبعثرة من الداخل، تتنازعني أفكار لا تهدأ، ومشاعر لا تستقر.

أخشى ظلام الخارج، لكن الأشد ظلمة هو ما يُقيم في الداخل.. حين تفقد الروح بوصلتها، وتجلس في مكانها خالية، لا تحس، لا تشعر، وكأنها غادرت الجسد بهدوء دون أن تُخبره.

العقل لا يزال يتمسك بكلماته المطمئنة: كل شيء بخير.

لكن الروح؟

تتساءل: لماذا تسخط الحياة علينا بهذا الشكل؟ 

لماذا نشعر أحيانًا أننا نقف في قلب عالم لا يعترف بوجودنا، ولا يعنيه ما نحمله من شقاء أو حُلم؟

ورغم ذلك، لا أفقد الأمل.. أُقاوم، أُغامر، أفعل ما لا يُفعل، وأمضي بخطى تتجاوز كل معقول وكل مألوف.

لن أستسلم في منتصف الطريق، فثمة شيء بداخلي ما زال حيًّا، ولو كان صامتًا.

لكني أرى العالم من حولي يترصّد..يراقب،ينتظر سقوطًا أو انكسارًا أو تراجعًا.

حتى أولئك العاجزين عن تحقيق شيء يُذكر، لا يتقنون سوى الأكل والنوم، وطقوس الاستراحة والإنجاب.

ويحسبون ذلك إنجازًا!

أحدهم يتفاخر به وكأنه فتح الأندلس، والواقع أنه لم يفتح حتى نافذة على روحه.

هؤلاء الذين يتوهّمون الفهم، لكنهم لا يعقلون.

تتراكم حولنا أفكار ومعتقدات كبُرنا وهي تُقدّس، تُفرض، تُكرر حتى باتت صخرًا لا يلين.

تلك الثوابت الراسخة… هل يمكن أن تتغير؟

هل تظن أنها ستتبدد في بلد الغربة؟

بالطبع.. لا.

فالغربة ليست جغرافيا، بل حالة.

الغربة ليست هناك… 

إنها هنا، في الداخل.

إنها حين نكون غرباء عن أنفسنا، حين نعيش في وسط مكتظ ونشعر أننا معزولون تمامًا.

حتى من يبتعد عن مدينته، عن شارعه، عن حارات طفولته، يشعر بها..فما بالك بمن يحمل قلبًا لا يجد له موطنًا على وجه الأرض؟

الغربة ليست في اختلاف اللغة أو الطقس أو العادات، بل في ذلك الصمت العميق بينك وبين الآخرين، حين لا تجد من يفهمك، حين لا تستطيع حتى أن تشرح نفسك.

الغربة… هي أن تكون في العالم، دون أن يكون العالم فيك،لكنني أؤمن رغم كل شيء، أن الغربة ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها.

أن الوحشة قد تكون تمهيدًا لاكتشاف أعمق للذات، وأن هذا الفراغ الذي يربكنا قد يكون مساحة يُعاد فيها بناء الروح من جديد.

ربما نحن لا نضيع، بل نتحوّل.

لا نختفي، بل نتخفّى لننضج بصمت.

سيأتي يوم نشعر فيه أن هذا التيه الذي أحاط بنا، كان ضروريًا لنصبح من نحن.

سنعود لأنفسنا، يومًا ما، أكثر دفئًا، أكثر فهمًا، وأكثر قربًا من كل ما كنّا نظنه بعيدًا.

                                د. صباح الجهني


الاثنين، 2 يونيو 2025

قيود الكلمة


إنسان مختلف

يغلبُ العالمَ برأسه العَقِب..لا يُقتلُ، ولا تُقهَرُ قوته.

فالكرامةُ فينا،نجمةُ ضوءٍ لا تنطفئ.

ثمة أشياء لا تُقالُ بالكلام فقط،بل تُعاشُ في الصمت،وتُكتبُ بأحرف القلب.

كاللوحةِ التي يرسمها فنانٌ مُبدع ، لا يعرفُ إلا فرشاته التي تسيرُ بلا قيود، وبلا رقابة..ترسمُ في لحظةِ الصمتِ حكايةً لا نعلمُها،ثم يقفُ يتأملُ رسمته،التي تحدثتْ بدلاً عن صمته..صوتُ أفكاره التي لم يُنطق بها بعد..هي سرُّه وغموضُه،وحقيقةٌ لا يفهمها إلا هو وحده.

 

                                 د. صباح الجهني


الأحد، 1 يونيو 2025

زاوية من القصة

 


لم أعد أطيق تلك النظرة التي تتكرر،كلما حاولت أن أبدو بخير.

نظرة التوقع..نظرة من يعتقد أنني أملك شيئًا أقوله،حكمة ما،جملة منمقة قادرة على تضميد الشروخ..لكن الحقيقة؟

أنا لستُ حكيمة.

ولا عاقلة بما يكفي لأمنح أحدًا كلماتٍ دافئة،تليق بمقام الألم.

كل ما في الأمر أنني تعلمتُ الصمت.

تعلمته لأن الحديث في مجتمعٍ مثل هذا لا ينفع،لأنه يُسرّبك خلسة نحو الخيانة.

نعم الخيانة..خيانة ذاتك حين تُجبر على التصرف بنُبل وأنت تغلي من الداخل،خيانة شعورك حين تبتسم وأنت تتفتّت،خيانة لحزنك حين تلوّح للحياة بأنك أقوى مما أنت عليه فعلًا.

هم لا يريدونك حكيمًا،هم فقط يريدونك مُروّضًا.

والحكمة في عرفهم،لا تحتاج لشيء سوى إتقان الغباء.

غباءٌ ناعم، يمرّ على الوجوه مبتسمًا، يختزل الحياة في قهوة ..ومثل ويصفّق له الجميع.

لكنني، في خلوتي،أعرف أني لستُ بخير،وأعرف أن ما يسمونه حكمة ليس سوى طلاء باهت للهروب.

وأعرف أنني رغم كل شيء، ما زلت أقاوم أن أتحول إلى نسخة مطابقة منهم.

لكن القهر الداخلي؟

ذلك لا يُروّض..إنه الوحش الصامت الذي ينمو في العتمة، لا يُرى، ولا يُقال، ولا يُشفى.

القهر ليس صراخًا ولا بكاءً،إنه ما تبقّى بعد أن يخذلك الجميع، وتخذل نفسك أيضًا حين تصمت.

إنه شعور كثيف لا يُوصف،كأن روحك تسقط داخلك ولا تجد يدًا واحدة تلتقطها.

الخذلان مؤلم،لكنّ القهر الذي يليه أشد فتكًا،لأنه لا يأتي من الآخرين فقط، بل منك أنت،حين تفهم متأخرًا أنك كنت تسند كل هذا الثقل على وهم.

أنا لست بخير.

ولا أرغب أن أكون بخير على الطريقة التي يريدونها.

أنا فقط أقاوم،بلا حكمة، بلا بطولات،فقط… بكرامة مرتجفة، ترفض أن تموت بصمت.

في تلك الزاوية من الغرفة، حيث الضوء باهت والهواء ثقيل، جلستُ أراقب ظلّي على الجدار.

كان الصمت ممتدًا كصحراء، لا صدى فيها إلا لأنفاسي المرتبكة.

كل ما حولي بدا طبيعيًا..الكوب الفارغ، الستارة التي لا تهتز،الساعة التي تمضي دون وجل.

لكن داخلي؟كان إعصارًا.

حاولت أن أُخرِس الصوت في داخلي، أن أضع عليه وشاحًا من الإنكار، أن أقول له: اصمت، لا وقت الآن..لكنه لم يصمت.

كان صراخها داخلي أكبر من كل المحاولات،أكبر من قدرتي على التظاهر،أكبر من ابتسامتي التي علّقتها على وجهي كقناع.

كانت تتحدث في رأسي..ليس بصوتٍ مسموع،بل بإلحاح الذكرى، بثقل الموقف،بارتجاف اليد حين يُذكّرها كل شيء..كنت أظن أنني عبرت، أن ما مضى دفنته تحت ركام الصمت الطويل..لكن الخريف يعود دائمًا، ولو في عزّ الصيف.

صراخها لم يكن حادًا..لم يكن واضحًا حتى..كان مثل طنين قديم في أذن الذاكرة، مثل صدى جملة قيلت ذات وجع ولم تُعتذر.

كل الأشياء حولي تحوّلت إلى شهود:

الكرسي المهتز، الورقة المطوية في الدرج، صوت الماء في الحمام..وحتى المرآة التي تجنّبت النظر فيها..تسللت إلى المطبخ كمن يهرب من نفسه..سكبت قهوتي ببطء،ارتعشت يدي.

تذكّرت كيف كانت ترتجف يدها وهي تُخفي الرسالة،وتقول: لا شيء… فقط فاتورة.

لا شيء.

كانت دائمًا تجيد إخفاء كل شيء خلف لا شيء..وأنا كنت أجيد التصديق.

جلست..شربت نصف القهوة..ثم سمعت ذلك الصوت مجددًا… صراخها.

لم يكن صوتًا يُسمع بالأذن..كان صوتًا يُسمع بالعظم..بالشعور.

كنتِ تعلمين.

قالتها داخلي، بصوت مكسور..حاد.. لا رحمة فيه.

نظرت إلى السقف،لا شيء سوى شرخ قديم،لكنه الليلة بدا وكأنه يمتد،

لكنني رغم كل شيء،ما زلت هنا.

أرتّق نفسي كلّ مساء بخيط من الصمت،وأجمع شتات ذاكرتي كمن يُلملم زجاجًا مكسورًا لا ليستعمله،بل فقط كي لا يؤذي أحدًا حين يخطو عليه.

ربما لا أعرف كيف أكون بخير،لكنني أعرف كيف لا أنهار بالكامل.

وهذا – في زمنٍ كزمني – كافٍ جدًا.

أنا لا أبحث عن خلاصٍ مبهر،ولا أرجو نهاية سعيدة تُصفّق لها الأيام،

كل ما أريده أن أستطيع الوقوف كل صباح،دون أن يئنَّ داخلي من وجعٍ مؤجل،أن أتنفس دون أن أُذكِّر نفسي كيف.

أنا لا أُريد الكثير،فقط لحظة صدقٍ لا أُضطر فيها للتظاهر،وصوتًا لا يُحاكم ضعفي،وهدوءًا يُشبه حضنًا لا يسألني عن شيء.

هذا كل ما تبقّى مني،كائنٌ هش، لكنه واعٍ،ينزف ببطء.. لكنه لا يُفرّط في كرامته.

ولو كان في هذا العالم موضع للكرامة المرتجفة،فأنا..ما زلت أحاول البقاء فيه.


                                   د. صباح الجهني 

دفاتر الحنين

  دفاتر الحنين حين يصبح الحب ذكرى لم تولد بعد ذاك الحب لا يموت. يتحول إلى ظلّ، إلى نغمة عابرة في لحظة صمت، إلى طرف غيمة تمرّ في السماء، ف...