الجمعة، 13 يونيو 2025

نافذة تطل علية

 





نافذة  تْـ طـَل عَليةَ….


عن الحبّ الذي يشبه الضوء: حاضر، لكنه لا يُمسّ.


تأمل في الحبّ الذي  يبُهجَ بَصمٌت


الوجوه في البداية تتشابه.


كل ملامح العالم تبدأ وكأنها تذكّرني به.

ثمة رموز صامتة تملأ الفراغ من حولي،

تحدّق إليّ كأنها تعرف ما عجز لساني عن قوله،


وتتبعني كظلّ قلبٍ لم ينطفئ رغم الغياب.


هناك نافذة، نافذة واحدة فقط،

تُطلّ عليه من بعيد،


كأن الكون اختزل مسافاته في فتحة ضوء واحدة،

هو يقف هناك، في الطرف الآخر من الإشراق،


نعم هو النور الذي يمنحني الحياة

 

هو ذاته ما أراه ولا أستطيع لمسه


كأن الضوء بيننا حاجز،


كأن وهجه هو ما يمنعني من العبور إليه.

إنه حب يُبهج،


لكنه مثل الجمال الذي لا يُطال،


نور  يمنح الطمأنينة،


كأن الضوء نفسه قرر أن يُثقلك بما لن تبلغه أبدًا.


أشعر بتعب لا اسم له.


تعب الغياب الذي لا يُعلن نفسه،


كأنك تحمل حبًا لا تعترف به، ولا تقدر على إنكاره.


والأشواق؟


تتدافع كالسيل في داخلك،


كأنك خُلقت لتحبّ… وحدك.


أحدق في الضوء القادم من النافذة،


أبحث عن صوته، عن ظلّ عينيه، عن نبرة خفيّة كانت تخصّه.


لكن لا شيء هناك… إلا وجعي.


ثم جاءت تلك اللحظة.

لم تكن مدوية،


بل هادئة كرحيل طيف،


نسيمٌ مرّ من حيث لا أدري،


لكنه همس بشيء بسيط:


“لستَ مضطرًا أن تحب وحدك، إلى الأبد.”


كأن الزمن توقّف للحظة ليسألني:


ألا يكفيك أن تُحبّ بعمقٍ، حتى لو لم يبادلك أحد؟


كأن الحنين الذي كان مغلقًا على ذاته،


انفتح فجأة على احتمالات جديدة.

باب صغير، لا يُفضي إليه،


لكن يسمح للضوء أن يدخل… من حلمٍ آخر.


ومن خلال ذلك الباب،


دخلت كلمات لم تكن له،


لكنها خففت عني.


وجملةٌ من شخص عابر،


أو نظرة لا تعنيني،


لكنها ضمّتني كأنني كنت وحيدة طويلًا.


فهمت أخيرًا:


بعض القلوب لا تأتي لتعطينا الحب،


بل لتدلنا على أننا نستحقه،


حتى لو لم نأخذه ممن أردنا


نافذتي ما زالت تطلّ عليه،


لكني لم أعد أطرقه كل ليلة.

النسيم ذاته،


هو أقل من حب،


وأكثر من سلام.


وأنا؟

ما زلت أحبه،


لكنني لم أعد أنتظره بالطريقة ذاتها.



د. صباح الجهني 

الاثنين، 9 يونيو 2025

تأملات في الصدمة والإنكار




حين تُغمض الحقيقة عينيها

تأملات في الصدمة والإنكار

في لحظة ما.. تسقط اللغة. تتجمد المشاعر. تتعطل الذاكرة. ليس لأننا لا نعلم، بل لأننا نعلم أكثر مما نحتمل.

من دفاتر أحلام منقوصة

في مساحات الوعي الهشة، حيث يتقاطع الإدراك بالحقيقة، لا يدخل الألم من الباب..بل يهبط على النفس كما يهبط الليل على مدينة صغيرة.. بلا إنذار.. بلا تفسير. 

هناك تولد الصدمة..وهناك أيضًا يولد الإنكار.

الصدمة..عندما تنكسر مرآة الفهم.

الصدمة ليست مجرد حزن أو ارتباك، بل خلخلة جذرية  للمعني.

هي اللحظة التي يقف فيها الإنسان أمام حدث لا يملك له تفسيرًا، فيتعطل داخله شيء ما.

يتجمد الزمن، ويتحول الحدث من شيء حدث إلى شيء لا يُصدق أنه حدث.

كل النظم التي بناها الإنسان ليفهم بها العالم ..المنطق، العادة حتى الإيمان أحيانًا ينهار فجأة.

وكأن الحياة تقول له لا تتكئ  عليّ، فأنا  أيضًا قابلة للانكسار.

في هذه اللحظة، لا يعود الإنسان هو ذاته. يصبح غريبًا عن نفسه، كما وصفه ألبير كامو:

غريبًا في عالم كان يظنه مألوفًا.

الإنكار..الحيلة الأخيرة للبقاء بعد الصدمة، تأتي الحاجة للنجاة.

هنا يُولد الإنكار، ليس ككذبة بل كـ قناع واقٍ من وهج الحقيقة.

في الإنكار لا يقول الإنسان لم يحدث بل يقول:

دعوني أتنفس قليلاً قبل أن أصدق.

هي محاولة لتجميد الزمن، للعودة إلى ما قبل الانهيار، كأنما النفس تنكر الألم كما ينكر القاتل جريمته.

فرويد يصف الإنكار كآلية دفاعية،لكن فلاسفة آخرين يرأون أكثر من ذلك.

إنه موقف..خيار..وربما شكل من أشكال الحنان الذاتي..فالعقل يعرف، لكنه يرحم نفسه بالتأجيل.

ما بين الهروب والمواجهة

هل الإنكار ضعف؟أم ذكاء روحي؟

وهل الصدمة بداية إنكار؟ أم لحظة انهيار؟

الفرق بين الصدمة والإنكار،هو الفرق بين أن تسقط في بئر الحقيقة دفعة واحدة، أو أن تتسلل نحوها على مهل.

الصدمة تفتح الباب فجأة، والإنكار يطلب منك أن تتريث.

لكن الحقيقة، مهما أغلقنا الأبواب، تعرف طريقها..وهي على قسوتها، ليست دائمًا عدوًا.

أحيانًا هي الوحيدة التي تُعيد ترتيب حياتنا من جديد، وإن كان بثمن باهظ.

أحيانًا لا نهرب من الحقيقة،لأننا نخافها،بل لأننا لم نعد نعرف أنفسنا بدونها.

 رانيا والإنكار كمهرب ناعم

لم تقل “خانني”..لم تصرخ، لم تحطم شيئًا، لم تكتب رسالة وداع، ولم تقف أمام المرآة لتلعن خيبتها فيه.

بل نهضت بهدوء غريب، حملت حقيبة صغيرة، وأغلقت الباب دون أن تلتفت خلفها.

رانيا لم تهرب إلى بلد آخر فقط، بل إلى نسخة أخرى من نفسها…

نسخة لا تسأل، لا تفسّر، ولا تريد أن تعرف الحقيقة كاملة.

كانت تعلم، منذ اللحظة الأولى.

نبرة صوته التي تغيّرت..تفاصيل صغيرة كانت تراها، وكلمات كانت تبتلعها وكأنها زلال مُرّ.

لكنها لم ترد أن تواجه..لم تملك الشجاعة أو ربما لم تُرِد أن تخسر ما تبقى من حلمها.

حين تُوجَع المرأة من رجل لا تبكيه..بل تمحو نفسها من ذاكرته أولًا.

في المدينة الجديدة، بين الغرباء، كانت تقول لنفسها:

أنا هنا لأجل الدراسة، لأجل أطفالي، لأجل بداية جديدة.

لكن الحقيقة كانت تحوم حولها كظل لا يُرى..كانت كل مساء، تخلع قناع المرأة القوية، وتحدّق في سقف غرفتها طويلاً، كما لو أن السقف يحمل الجواب الذي تخشاه.

في جلساتها النسائية، حين تضحك النساء على خيانة الرجال، كأنها طرفة، كانت تضحك معهم، ثم تصمت فجأة، كما لو أن القلب تذكّر شيئًا لا يُقال.

الإنكار لم يكن كذبة.

كان معطفًا ثقيلًا ترتديه كي لا تتجمد من صقيع الحقيقة.

كانت تعرف.

لكنها – ببساطة – لم تكن مستعدة لأن ترى نفسها في مرآة امرأة خُذلت.



د. صباح الجهني 

الأحد، 8 يونيو 2025

رقصة الكراهية




الكراهية لا تهدم إلا بيوتًا واهنة.. تسكنها العتمة وتنخرها الرطوبة والصمت..لا تستأذن حين تأتي، بل تقتحم بعنف الرياح العمياء.

هي ليست سوى مرآة لأولئك المنكسرين، الذين ترتعش أرواحهم وتفضحهم دموع لا يخجلون منها…أو لعلهم نسوا كيف يخجلون.

وجع متلبّس يتكئ على وجوه باهتة، وأعين فقدت القدرة على الحُب.

يرتفع صوت القبح في ملامحهم، وتخبو فيهم إنسانيتهم.. تتسلل الكراهية من الشقوق الضيّقة، من الهمسات المختنقة، من النظرات التي تسكنها المرارة.

تسقط على كل علاقة لم تُبنَ على المحبة،وتهدم كل بناء لم يُدعّم بالعدل.

تترك خلفها ركامًا نابضًا بالألم، وذكريات مبتورة كأثاث قديم في بيت مهجور.

ثم بكل صلف، تقف فوق الخراب، ترقص على الرماد كأنها انتصرت،

لا تبالي بمن انكسرت أرواحهم، ولا بمن بردت قلوبهم.

فهي لا تعرف لغة البناء، ولا تؤمن إلا بسقوط الأشياء..ومع ذلك، فإنها لا تنتصر.

فالحب مهما غاب، يعود كمن يعيد طلاء الجدران بعد عاصفة.

والقلوب التي لم يُطفئها الظلام، لا تمكث طويلًا في متاهة الغضب.

تسللت كما تتسلل الغيرة: خافتة، مرتبكة،همسة خبيثة قالت: لماذا لا تكون حياتك مثل حياتها؟

ظننتها لحظة عابرة..شقًّا في الجدار.

لكنها وجدت مكانها،في صدرٍ كانت تراكمت فيه الأسئلة، وتيبّست فيه نُتف الفرح.

الكراهية لا تولد عاصفة، بل نقطة صغيرة داكنة في لوحة من نور،تكبر كلما قارنّا، كلما قلّ شكرنا، وكلما أطلّ الآخر من مرآتنا.

رأيتها في ابتسامة صديقة، سؤال يصرخ: لماذا هي؟ ولماذا….؟

رأيتها في انعكاس امرأة تتزيّن بالصبر، لكنها تتآكل من الداخل.

لم تكن الكراهية موجهة إليها..بل كانت ألمًا مستترًا، عجزًا عن الفهم، صرخة تبحث عن عدوّ خارجي..كي تهرب من مرآة الداخل.

الغيرة صدع صغير في جدار الروح،يمتدّ بصمت، ثم فجأة ينهار كل شيء.

والحسد لا يصيب المحسود،بل يحوّل صاحبه إلى ظلّ هزيل، عالق بين الندم واللاشيء.

صرنا نغلف عجزنا بالكراهية،نُخفي خيبتنا تحت قناع الغضب،لكنها كانت غطاءً شفافًا،يكشف قبح ما نحاول ستره.

لم ننتصر..لم نشفِ الجرح،بل ازددنا فراغًا ووحشة،أقرب إلى ما كنّا نكرهه،وأبعد عن أنفسنا.

حتى جاءت الحقيقة: أن الكراهية لا تحرق إلا حاملها،وأن الغيرة، حين تسكن القلب، تسلبه ملامحه الجميلة.

فكيف تبني الكراهية، وهي بدأت من رغبة في التهام النور؟

الآن، وأنا أقف على الأطلال،أحاول أن أزرع شيئًا آخر.. صدقًا، قناعة، وطمأنينة لا ترتبط بأحد.

أدركت أن ما تهدمه الكراهية ليس سوى وهمٍ كان يجب أن يسقط.

فلا عاصفة تدوم، ولا رماد يخلو من جمر ينتظر قبس أمل.

وربما.. كان هذا السقوط ضرورة،كي أنجو من زيفٍ كنت أظنه علوًّا.

                                            د. صباح الجهني


الدين والتقليد مواسم متقلبة بين الخوف والعادة

  صراع  البشر بين الدين والتقليد: مواسم متقلّبة بين الخوف والعادة ما بين لحظة خوفٍ عميق وصوت ضميرٍ مرتجف، يتشبّث الإنسان بالدين. وما بين رخا...