الاثنين، 9 يونيو 2025

تأملات في الصدمة والإنكار




حين تُغمض الحقيقة عينيها

تأملات في الصدمة والإنكار

في لحظة ما.. تسقط اللغة. تتجمد المشاعر. تتعطل الذاكرة. ليس لأننا لا نعلم، بل لأننا نعلم أكثر مما نحتمل.

من دفاتر أحلام منقوصة

في مساحات الوعي الهشة، حيث يتقاطع الإدراك بالحقيقة، لا يدخل الألم من الباب..بل يهبط على النفس كما يهبط الليل على مدينة صغيرة.. بلا إنذار.. بلا تفسير. 

هناك تولد الصدمة..وهناك أيضًا يولد الإنكار.

الصدمة..عندما تنكسر مرآة الفهم.

الصدمة ليست مجرد حزن أو ارتباك، بل خلخلة جذرية  للمعني.

هي اللحظة التي يقف فيها الإنسان أمام حدث لا يملك له تفسيرًا، فيتعطل داخله شيء ما.

يتجمد الزمن، ويتحول الحدث من شيء حدث إلى شيء لا يُصدق أنه حدث.

كل النظم التي بناها الإنسان ليفهم بها العالم ..المنطق، العادة حتى الإيمان أحيانًا ينهار فجأة.

وكأن الحياة تقول له لا تتكئ  عليّ، فأنا  أيضًا قابلة للانكسار.

في هذه اللحظة، لا يعود الإنسان هو ذاته. يصبح غريبًا عن نفسه، كما وصفه ألبير كامو:

غريبًا في عالم كان يظنه مألوفًا.

الإنكار..الحيلة الأخيرة للبقاء بعد الصدمة، تأتي الحاجة للنجاة.

هنا يُولد الإنكار، ليس ككذبة بل كـ قناع واقٍ من وهج الحقيقة.

في الإنكار لا يقول الإنسان لم يحدث بل يقول:

دعوني أتنفس قليلاً قبل أن أصدق.

هي محاولة لتجميد الزمن، للعودة إلى ما قبل الانهيار، كأنما النفس تنكر الألم كما ينكر القاتل جريمته.

فرويد يصف الإنكار كآلية دفاعية،لكن فلاسفة آخرين يرأون أكثر من ذلك.

إنه موقف..خيار..وربما شكل من أشكال الحنان الذاتي..فالعقل يعرف، لكنه يرحم نفسه بالتأجيل.

ما بين الهروب والمواجهة

هل الإنكار ضعف؟أم ذكاء روحي؟

وهل الصدمة بداية إنكار؟ أم لحظة انهيار؟

الفرق بين الصدمة والإنكار،هو الفرق بين أن تسقط في بئر الحقيقة دفعة واحدة، أو أن تتسلل نحوها على مهل.

الصدمة تفتح الباب فجأة، والإنكار يطلب منك أن تتريث.

لكن الحقيقة، مهما أغلقنا الأبواب، تعرف طريقها..وهي على قسوتها، ليست دائمًا عدوًا.

أحيانًا هي الوحيدة التي تُعيد ترتيب حياتنا من جديد، وإن كان بثمن باهظ.

أحيانًا لا نهرب من الحقيقة،لأننا نخافها،بل لأننا لم نعد نعرف أنفسنا بدونها.

 رانيا والإنكار كمهرب ناعم

لم تقل “خانني”..لم تصرخ، لم تحطم شيئًا، لم تكتب رسالة وداع، ولم تقف أمام المرآة لتلعن خيبتها فيه.

بل نهضت بهدوء غريب، حملت حقيبة صغيرة، وأغلقت الباب دون أن تلتفت خلفها.

رانيا لم تهرب إلى بلد آخر فقط، بل إلى نسخة أخرى من نفسها…

نسخة لا تسأل، لا تفسّر، ولا تريد أن تعرف الحقيقة كاملة.

كانت تعلم، منذ اللحظة الأولى.

نبرة صوته التي تغيّرت..تفاصيل صغيرة كانت تراها، وكلمات كانت تبتلعها وكأنها زلال مُرّ.

لكنها لم ترد أن تواجه..لم تملك الشجاعة أو ربما لم تُرِد أن تخسر ما تبقى من حلمها.

حين تُوجَع المرأة من رجل لا تبكيه..بل تمحو نفسها من ذاكرته أولًا.

في المدينة الجديدة، بين الغرباء، كانت تقول لنفسها:

أنا هنا لأجل الدراسة، لأجل أطفالي، لأجل بداية جديدة.

لكن الحقيقة كانت تحوم حولها كظل لا يُرى..كانت كل مساء، تخلع قناع المرأة القوية، وتحدّق في سقف غرفتها طويلاً، كما لو أن السقف يحمل الجواب الذي تخشاه.

في جلساتها النسائية، حين تضحك النساء على خيانة الرجال، كأنها طرفة، كانت تضحك معهم، ثم تصمت فجأة، كما لو أن القلب تذكّر شيئًا لا يُقال.

الإنكار لم يكن كذبة.

كان معطفًا ثقيلًا ترتديه كي لا تتجمد من صقيع الحقيقة.

كانت تعرف.

لكنها – ببساطة – لم تكن مستعدة لأن ترى نفسها في مرآة امرأة خُذلت.



د. صباح الجهني 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دفاتر الحنين

  دفاتر الحنين حين يصبح الحب ذكرى لم تولد بعد ذاك الحب لا يموت. يتحول إلى ظلّ، إلى نغمة عابرة في لحظة صمت، إلى طرف غيمة تمرّ في السماء، ف...