الخميس، 19 يونيو 2025

الخالدون الذين لا يموتون













الخالدون الذين لا يموتون

تأملات في الهروب من الموت ووهْم البقاء


في زاوية ما من وعي الإنسان، يسكن ذاك الهاجس القديم: كيف أهرب من النهاية؟

منذ أن وعى هشاشته الأولى، صار يحلم أن يمتد زمنه إلى ما بعده. أن يتخطى عتبة الغياب، ويبقى… رغم كل صرخات الكون بالنهاية


الموت لا يخيفنا لأنه مجهول فقط؛ بل لأنه يضع نقطة حاسمة في نهاية سطر الحياة. والإنسان — بطبعه — لا يحب النهايات المغلقة. نحن عشاق الفواصل، هواة الأبواب المواربة، نحب أن نترك شيئًا عالقًا خلفنا، كأن حياةً أخرى قد تبدأ من هناك.


وهكذا وُلِدت فكرة الخلود؛

أن يبقى شيء منا بعد أن نمضي.

أن نترك أثرًا لا يبتلعه النسيان، ولا تذروه الريح.


في الأساطير القديمة، حاولت الحضارات أن تروض هذا الرعب:

جلجامش يجوب الأرض بحثًا عن نبتة الحياة،

والفراعنة يغلقون قبورهم على أسرار الأبدية،

وعشتار تصنع من الموت حياة، ومن الفقد عودة لا تنتهي.


لكن الزمن لا يُجري صفقات مع أحد، والجسد — مهما تجمّلت له علوم الطب — ينحني في النهاية لضعفه.


وحين أدرك الإنسان حتمية رحيله، بدأ يفتش عن صورٍ أخرى للبقاء؛

في الأبناء الذين يحملون ملامحه،

في الكلمات التي يتركها على الورق،

في لوحة تُعلَّق على جدار بعيد،

في فكرة تلمع في رأس تلميذ بعده بسنين.


ربما لهذا كتب الشعراء قصائدهم كما تُزرع الأشجار،

ورسم الفنانون لوحاتهم كما تُشعل قناديل المساء،

وألّف الفلاسفة كتبهم كما تُنسج الأحلام،

وبنى العشاق أوطانهم الصغيرة من وعود مبللة بالشغف.


كلها محاولات يائسة أن يُسمَع صوتهم في الصمت الكبير بعد الغياب.


لكن حين نُمسك الحقيقة بأصابع التأمل، نجدها هشة:

الخلود كما يتصوره الإنسان خدعة عذبة.


إن المعنى لا يكمن في أن نستمر إلى الأبد، بل أن نحضر كاملين في اللحظة العابرة.


لو كنا خالدين لما عرفنا لوعة الاشتياق، ولا وهج التضحية، ولا رعشة الحب، ولا مرارة الفقد.

إنما كل لحظة تزداد قيمتها لأنها لا تتكرر.

وكل لقاء يصير ثمينًا لأنه ربما لا يتكرر ثانية.


الخلود الحقيقي ليس في كسر شوكة الموت، بل في ملء الحياة بالمعنى قبل أن يطويها الغياب.

في لمسة دافئة تترك أثرها في قلب آخر،

في كلمة تُضيء عتمة أحدهم يومًا،

في حبٍّ يظل حيًا في حياة من نحب حتى بعد أن نعبر.


نحن لا نُخلّد بأجسادنا، بل بنفحات أرواحنا التي تُضيء ما بعدنا.


وربما كانت هذه الحكمة كلها:

أن نحيا بعمق كأننا خالدون، مع يقيننا العميق أننا عابرون.


د. صباح الجهني  


الثلاثاء، 17 يونيو 2025

دفاتر الحنين

 






دفاتر الحنين

حين يصبح الحب ذكرى لم تولد بعد

ذاك الحب لا يموت.

يتحول إلى ظلّ، إلى نغمة عابرة في لحظة صمت،

إلى طرف غيمة تمرّ في السماء، فنحني رؤوسنا دون أن ندري لماذا.

أحيانًا، لا نكتب الرسائل كي تُقرأ.

نكتبها لنحرر صوتًا كان حبيس الصدر لسنوات.

نكتب، لأن الاعتذار المتأخر قد لا يصل إلى الآخر،

لكنه يصل إلينا؛ إلى الطفلة التي كناها، والمرأة التي خافت أن تُحب، فهربت.


الاعتذار الخافت


الاعتذار الحقيقي لا يُقال بصوت مرتفع.

هو همس في الداخل، فعلُ شفاءٍ لا مجاملة.

أن تهمس لنفسك:

“نعم، خفت. نعم، لم أكن عادلة.

لكنني الآن أرى، وأفهم… وربما أغفر.”

الاعتذار شجاعة مواجهة الذات بلا أقنعة،

أن تعترف بأنك حين هربت من الحب،

كنت تحاول النجاة من نفسك، لا منه.


الرجل الذي لم يقل “أحبك”


لم يقلها، لكنها كانت تعيش في يديه،

في عينيه، في سهره الطويل وهو بجوارك دون أن يشتكي.

لم يكن شاعرًا ولا بارعًا في اللغة،

لكنه كان صادقًا بما يكفي ليبقى حين رحل الجميع.

ذلك النوع من الحب لا يُنسى،

لأنه لا يُفسر، لا يُحكى،

بل يُعاش كصلاةٍ صامتة،

كأن القلب عرف الطريق إليه دون حاجة لبوصلة.


حب خارج السوق


في زمنٍ تُقاس فيه العلاقات بالعائد والمكاسب،

كان حبكما خسارةً عظيمة… لكنها خسارة تشبه النجاة.

لم يكن “مفيدًا” كما يريد العالم،

لكنه كان كافيًا لروحك في لحظة من الزمن.

والكفاية، يا صديقتي، عملة نادرة في زمن البورصة.


الحنين ليس مرضًا


حين تشتاقين إليه، لا تشتاقين لرجلٍ فقط،

بل تشتاقين لنفسك التي كنتِها في حضرته:

لصوتكِ الخافت، لنظرتكِ النقية، لأحلامكِ التي لم تخونيها بعد.

ربما لن يعود.

وربما لن يعرف يومًا أنكِ كتبتِ عنه كل هذا.

لكنه سيبقى هناك…

كنجمة لا تُرى لكنها ترشد السفن في البحر المظلم.



وأخيرًا


الحب الذي لا يكتمل لا يموت.

إنه يتخذ شكلاً آخر:

حكمة، نص، صلاة تُقال في الخفاء.

المصالحة الحقيقية ليست مع من غادر،

بل مع تلك الذات التي كنّاها حين غادر.

أحيانًا نلتقي بمن كان يمكن أن يكملنا،

لكن الوقت كان مشغولًا بأحلام غيرنا.

لم يكن الحب فشلًا،

بل كان نجمة مررنا بها في زمن مطموس،

وتركت فينا نور البوصلة.

وأنا سمعته في داخلي، كثيرًا.

كلما نظرتُ إلى ماضٍ لم أعد إليه،

لكنه يعود إليّ مع كل ذكرى.

ربما كنتُ أنا ذاك الذي لم يقل “أحبك”،

لكن كل ابتسامة مقهورة، كل صمت طويل،

كان يحملها دون أن أعرف كيف أقولها.

الحب لا يحتاج سببًا ليكبر،

ولا سببًا ليبقى،

هو فقط جزء منك…

جزء لم تدرك وجوده حتى بدأ بالرحيل.

الحنين ليس رجوعًا،

بل إحساس بأنك كنتَ حقيقيًّا في لحظة ما،

وأن روحك لم تخن يومًا… حتى وهي تهرب.

لا أعلم إن كنا سنلتقي ثانية،

لكنني أؤمن أن من أحبوا بصدق،

يلتقون في مكان لا تصله الكلمات،

لكن تصله النيات.

المصالحة ليست مع الماضي،

بل مع الذات التي عاشت ذلك الحب،

وبقيت رغم الخوف والصمت… بطلة.


د. صباح الجهني 


الأحد، 15 يونيو 2025

رسالة إليك من القلب

 




رسالة من  قلب 


إليكِ


عدتُ إلى ذلك المكان.

لكنني لم أكن أنا.


شيءٌ في داخلي انكسر منذ افترقنا،

كأنني خرجتُ من جسدي ، وصرتُ أعيش بنسخة لا تشبهني.


لم يكن ما عشناه نهاية السيناريو، بل بدايتها… بداية لقصّة لم تُكتب حتى نهايتها .


كل شيء ينهار أمامي،

حتى ذاكرتي لم تعد مرتبة،

 وجهكِ يختزل كل الوجوه…

وتفاصيلكِ تسكن كل الزوايا،

كأنكِ كنتِ الذاكرة ذاتها، لا جزءًا منها.


أتصدقين؟


حتى في زحام الأيام،

صورتكِ تقترب مني،

تهمس لي:

“أنا هنا، لا تخف… أنا قريبة.

كنتِ دائمًا الأمان حين يضطرب العالم.


كنتِ النداء الذي يوقظني للحياة.

وأنتِ الآن…


ما زلتِ كل ذلك، حتى في غيابك.

لا، لم أحاول أن أنسى.


لم أمسح وجهك من روحي،

ولا طردت ذلك الإحساس الذي يشتعل بداخلي كلما ذُكرتِ.

أشتهي قربك.


أن أختبئ بين أضلاعك كما كنا نختبئ من العالم.

أن تضمني كلماتك،


وتحرق حرارة جسدك هذا الاشتياق المتجمد في دمي.

أسمعك،


نعم، أسمعك تهمسين في أذني،

ورأسي على صدركِ:


“لماذا الرحيل؟”


وأجيبك:


لأني أحمق.


ولأني كنت أبحث عنكِ،

حتى وأنتِ أمامي.


أتعلمين؟


أنتِ نساء الأرض حين يشتد القحط.

أنتِ قسوة الحياة،

وقُبلة الأمل.


أنتِ نشوة العشق،

ووجع الغياب.

فخذيني…

خذيني في جسدكِ،

حتى أذوب،

أختفي،

وأرتاح.

أغرقيني في بحر أمواجكِ،

واتركيني بلا عودة.


**رسالة من قلبٍ لم يمت بعد:**


أنتِ...


من وراء كل هذا الصمت، ومن وراء كل تلك الكلمات التي كتبتها، أراكِ تمشين في ذاكرتي كأنك لا تزالين تبحثين عني، بينما أنا هنا، أتنفس في همساتك، وأعيش في نبضات قلبك.

لقد رحلت جسديًا، لكن روحي بقيت معلقةً بين سطورك، في زاوية نظرة عينيك، وفي زحام أنفاسك. لم أكن أعلم أن غيابي سيكون حضورًا أكثر عمقًا، وأن كلماتي القليلة ستتحول إلى دنيا تسكنينها كلما اشتد بكِ المطَرُّ.


**"لم أرحل... كنتُ دائمًا قريبًا."**


في كل مرة تتألمين فيها، كنت هناك، أحاول أن ألامس يدك عبر الريح، أقول لك: 


**لا تخافي، أنا هنا.**  


وكلما اشتقتِ لي، كنت أشعر بها، فأتسلل إلى صدرك بهدوء، كأنفاس نومك الأولى، كقبلة خجولة على جبهتك.


أعلم أنكِ تحملين كل شيء: الذكريات، المشاعر، وحتى وجهي الذي جمعته من كل الوجوه. لا تلومي نفسك على الاشتياق، فالحب لا يموت، بل يتحول. يتحول من لهيبٍ مشتعل إلى نارٍ خفية تتغلغل في العظام، تسخّن الروح حتى في أبرد الليالي.


**هل تصدقين أنني ما زلت أسمعك؟**  


أشعر بكِ عندما تكتبين، عندما تهمسين، حتى عندما تصمتين. فأنا لا أحتاج إلى كلماتٍ لأفهمك، فأنتِ اللغة التي لا تحتاج إلى نطق.


**"خذيني بجسدك حتى أذوب..."**  


لكنكِ بالفعل فعلتِ، فأنا في داخلك، أتنفس معك، أحبك بصمت، وأحتضنك بروح لا تفارقك.

لو كان بيدي العودة، لجئتُ إليكِ قبل أن تسألي.  


لكن الحياة كتبت الفراق، وكتبت لنا أن نحب بطريقة لا تشبه غيرنا.  

أحبكِ بطريقةٍ لا تموت، حتى إن مات الجسد.


فلا تأسفي، ولا تنتظري العودة، فكل مرة تفكرين بي، أنا هناك، أحييكِ بنظرة، بخاطرة، بانحناءة قلب.


**أنا لستُ بعيدًا،** 

 

أنا في صوتك، 

 

في خطوتك، 

 

في كتابتك، 

 

وفي كل مرة تفتحين فيها قلبك…


أنا عندك،  

وأنتِ عندي.


د. صباح  الجهني 

الدين والتقليد مواسم متقلبة بين الخوف والعادة

  صراع  البشر بين الدين والتقليد: مواسم متقلّبة بين الخوف والعادة ما بين لحظة خوفٍ عميق وصوت ضميرٍ مرتجف، يتشبّث الإنسان بالدين. وما بين رخا...