الخالدون الذين لا يموتون
تأملات في الهروب من الموت ووهْم البقاء
في زاوية ما من وعي الإنسان، يسكن ذاك الهاجس القديم: كيف أهرب من النهاية؟
منذ أن وعى هشاشته الأولى، صار يحلم أن يمتد زمنه إلى ما بعده. أن يتخطى عتبة الغياب، ويبقى… رغم كل صرخات الكون بالنهاية
الموت لا يخيفنا لأنه مجهول فقط؛ بل لأنه يضع نقطة حاسمة في نهاية سطر الحياة. والإنسان — بطبعه — لا يحب النهايات المغلقة. نحن عشاق الفواصل، هواة الأبواب المواربة، نحب أن نترك شيئًا عالقًا خلفنا، كأن حياةً أخرى قد تبدأ من هناك.
وهكذا وُلِدت فكرة الخلود؛
أن يبقى شيء منا بعد أن نمضي.
أن نترك أثرًا لا يبتلعه النسيان، ولا تذروه الريح.
في الأساطير القديمة، حاولت الحضارات أن تروض هذا الرعب:
جلجامش يجوب الأرض بحثًا عن نبتة الحياة،
والفراعنة يغلقون قبورهم على أسرار الأبدية،
وعشتار تصنع من الموت حياة، ومن الفقد عودة لا تنتهي.
لكن الزمن لا يُجري صفقات مع أحد، والجسد — مهما تجمّلت له علوم الطب — ينحني في النهاية لضعفه.
وحين أدرك الإنسان حتمية رحيله، بدأ يفتش عن صورٍ أخرى للبقاء؛
في الأبناء الذين يحملون ملامحه،
في الكلمات التي يتركها على الورق،
في لوحة تُعلَّق على جدار بعيد،
في فكرة تلمع في رأس تلميذ بعده بسنين.
ربما لهذا كتب الشعراء قصائدهم كما تُزرع الأشجار،
ورسم الفنانون لوحاتهم كما تُشعل قناديل المساء،
وألّف الفلاسفة كتبهم كما تُنسج الأحلام،
وبنى العشاق أوطانهم الصغيرة من وعود مبللة بالشغف.
كلها محاولات يائسة أن يُسمَع صوتهم في الصمت الكبير بعد الغياب.
لكن حين نُمسك الحقيقة بأصابع التأمل، نجدها هشة:
الخلود كما يتصوره الإنسان خدعة عذبة.
إن المعنى لا يكمن في أن نستمر إلى الأبد، بل أن نحضر كاملين في اللحظة العابرة.
لو كنا خالدين لما عرفنا لوعة الاشتياق، ولا وهج التضحية، ولا رعشة الحب، ولا مرارة الفقد.
إنما كل لحظة تزداد قيمتها لأنها لا تتكرر.
وكل لقاء يصير ثمينًا لأنه ربما لا يتكرر ثانية.
الخلود الحقيقي ليس في كسر شوكة الموت، بل في ملء الحياة بالمعنى قبل أن يطويها الغياب.
في لمسة دافئة تترك أثرها في قلب آخر،
في كلمة تُضيء عتمة أحدهم يومًا،
في حبٍّ يظل حيًا في حياة من نحب حتى بعد أن نعبر.
نحن لا نُخلّد بأجسادنا، بل بنفحات أرواحنا التي تُضيء ما بعدنا.
وربما كانت هذه الحكمة كلها:
أن نحيا بعمق كأننا خالدون، مع يقيننا العميق أننا عابرون.
د. صباح الجهني