لستُ ضحية، بل شاهدة
كانت الغرفة خافتة الضوء، تفوح منها رائحة أنثوية رخيصة لا تشبهني، لكنها تشبهك. رائحتها هي رائحتك. شعرها مبلل، وهو نصف عارٍ، وعيناهما حين التفتا إليك لم تنكرا، بل تجمدتا للحظة، كأنك ظل عابر لا يستحق حتى الذهول.
نبض قلبك سبق كلماتك، ارتجف جسدك كما لو التقطت يدك من نار، ورميت حقيبتك كأنها عبء النجاة المتأخر.
خطوت نحوها، بلا تفكير، بلا عقل.
لم تكن الخيانة زلّة عفوية أو لحظة ضعف، بل كانت اختيارًا واعيًا، قررت فيه أن تمحو وجهي من مرآتك، أن تهدم أعمدة بيت ظننته صلبًا، فإذا بها تنهار كأعواد يابسة.
دخلت امرأة إلى فراشك، لا تحمل ملامحي، لا تعرف اسمي، لكنك منحتها إياه، كأنك تنزعني من ذاتي وتلصق اسمي على جسد غريب.
أي عبث هذا؟
أي انحدار يجعلك تبيع تاريخًا بكلمة، وتهدي اسمي لمن لا يشبهني، وتنطق به بلسان لا يعرف الطهر ولا الوفاء؟
لقد داس كرامتي أرضًا، ليس لأنك خنت، بل لأنك أذللتني باسم لم تعد تعرف كيف تحترمه.
صفعة. صرخة.
غضبتُ من المرأة، لا منك. كأنني أردت أن أقتصّ من الصورة، لا من الحقيقة، من المرآة التي كشفت بشاعتك، لا منك.
لم تكن “العاهرة” سوى تجسيد لانهيارك، لخذلانك، للشتيمة التي وجهها إليك حين قررت الخيانة، جسدًا وروحًا.
كانت صورة مقلوبة، سقطت من مرآة مهشّمة، حين انكسر الحب وانكشفت النوايا.
في تلك اللحظة، لم يكن خائنًا فقط، بل جلادًا يبتسم بعد تنفيذ حكمه.
نظر إليك بلا اعتذار، بلا اندهاش، بلا تفسير. توقفت عيناه على عينيك، كأنه يسأل:
“وماذا كنت تظنين؟”
تلك الساقطة لم تسرقه مني، بل كانت النصل الذي اخترته لطعني به.
لم يكن جسدها الخيانة، بل سكوتي السابق، وثقتي الغبية.
حبك تآمر علي مع الغريزة، وكانت الشتيمة متجسدة في امرأة بلحم ووجه وشعر مبلل… امرأة لم تعرفني، لكني شعرت بأنها تعرف كل شيء عني.
سقط في داخلي شيء لن يعود. ليس فقط حبك، بل إيماني بأنك كافية.
رأيت نفسي في عينيها، لا كامرأة مهزومة، بل كغبية وضعت في مقارنة وخسرت.
ربما كان الألم في صمتي أكثر من خيانته، في نظرة لم تسأل عن وجعي، بل قالت بوضوح:
“أنت لست هنا الآن، لم تعد شيئًا.”
قد لا يكون ما تشعرين به حبًا.
الحب لا يوجع هكذا.
قد يكون تعلقًا بمن كنت تظنينه، لا بمن هو عليه فعلاً.
وقد يكون غضبًا من نفسك لأنك صدقت، أو لأنك منحت أكثر مما يجب.
أسأل نفسي:
هل أبكي عليه، أم أبكي على نفسي؟
هل أشتاق له، أم أشتاق لمن كنتُ وأنا معه؟
هناك يكمن الجواب.
في الخارج، كان الهواء مختلفًا، باردًا، حادًا، كأن الحياة صفعتك أيضًا وقالت: استيقظي.
انعكس ضوء الشارع على عينيك، فلم تدمعي. لا دموع.
لأن من تبكي يتوق لاسترداد شيء، وأنت كنت تودعين.
سرت في الشارع كأنك لا تحملين اسمًا، لا ماضيًا، لا حكاية.
وكم كان ذلك مريحًا، أن تكوني صفحة بيضاء… حتى لو كتبت بلون الألم.
في داخلك، لم يعد هناك سؤال، ولا حاجة لإجابات.
كنت فقط تمشين.
وهذا وحده، في تلك اللحظة، كان كافيًا لتبدئي من جديد.
في الأيام التالية، لم تنهاري.
لم تُغلقي النوافذ، ولم تتوارَي خلف الستائر.
لكن كنت تمشين داخل جسدك كأنه بيت محترق،
تبحثين عن غرفة لم يصلها اللهب، عن ركن صغير لا يزال ينبض بالحياة.
لم تكن البداية قرارًا كبيرًا، بل أشياء صغيرة جدًا:
غسل فنجان قهوتك بنفسك،
ترتيب السرير وحدك، وترك الجهة الأخرى فارغة دون ألم،
التوقف عن تفقد الهاتف،
الخروج دون عطر، دون انتظار، دون عيون تراقبك من خلفك.
لم تقولي: سأبدأ من جديد.
بل قلت: سأكمل… فقط اليوم.
يوماً بعد يوم، صارت الخطوات أقوى،
ضحكت فجأة من شيء عابر، ثم صمتت،
شعرت بالذنب، لكنك لم تعد تبكين.
لم يكن النسيان هو الحل، بل الفهم.
فهمتِ أن الخيانة ليست نهاية العالم،
بل نهاية صورة رسمتها لنفسك، وأحببتها أكثر مما أحببت من فيها.
فهمت أن العطاء لا يُقاس بكم من يبقى،
بل بقدرتك على الحب، والمسامحة، والاستمرار… دون إذلال نفسك.
بدأت تكتبين، ليس عنه، بل عنك.
عن الصدمة، عن النجاة، عن الأيام التي لم يعرف فيها أحد أنك كنت على شفير الانفجار.
بدأت ترسمين، تطبخين، تنظفين زوايا بيتك كما تنظفين قلبك.
ولم تعودي تتجنبين الأماكن التي كنت فيها معه، بل مشيت فيها وحدك من جديد،
رفعت رأسك، وقلت في سرك:
“أنا كنت هنا، وسأظل هنا. لا أحد يستطيع محوي.”
الشفاء لم يكن لحظة، بل طقوسًا هادئة، متكررة، صامتة.
وفي كل صباح، كنت تهمسين لنفسك:
“أنا لا أشفى لأجله، بل لأجلي، لأنني أستحق أن أعود كاملة.”
أصبح الماضي قصة،
وأصبحت أنت راويتها، لا أسيرتها.
د. صباح الجهني