عين تتأمل، وعين تتمزق: المرأة بين دافنشي وبيكاسو”
حين أطلتُ التأمل في صورة المرأة كما رسمها نيتشه بكلماته القاسية، وتشيخوف بصمته الحنون، وجدتني أنزلق ـ دون قصد ـ إلى عالمٍ آخر، لا تحكمه الفلسفة ولا تُقيّده اللغة، بل يمتد عبر الألوان والخطوط والظلال. هناك، على ضفاف اللوحة، تتجلّى المرأة كما لم تُكتب من قبل: عند بيكاسو، مفكّكة وممزّقة بين الانفعال والتكوين، وعند دا فينشي، ساكنة كالسِرّ، موحية كالحقيقة التي لا تُقال.
ذلك الانتقال من النص إلى الصورة لم يكن هروبًا، بل استكمالًا لرؤيةٍ لم تكتمل إلا عندما التقت الفكرة بالملامح
ليست المرأة في الفن مجرّد ملامح تُنقل إلى القماش، بل هي سؤال يتسلل من قلب الفنان، ويعود إليه بألف جواب.
هي ليست ما نراه، بل ما نستبطنه. وجهٌ يُرسم، لكن المعنى في الظل.
بين ليوناردو دافنشي وبابلو بيكاسو تمتدّ مسافة شاسعة لا يقيسها الزمن وحده، بل يقيسها اختلاف النظرة إلى المرأة ذاتها:
هل هي سرّ صامت يسكن الكون؟
أم هي تمزقٌ داخلي يتخذ هيئة أنثى؟
🕊️ دافنشي: المرأة كصمتٍ كوني في لوحات دافنشي، لا تصرخ المرأة ولا تبوح، بل تجلس بهدوءٍ يشبه الحكمة.
وجهها نصف ابتسامة، وعيناها لا تنظران إلى الخارج بقدر ما تحدّقان في الداخل.
كأن الجمال عنده لا يُستعجل، بل يُنتظر.
كأن المرأة لا تُرى دفعة واحدة، بل تُفهم كما تُفهم اللغة القديمة أو النبوءة الغامضة.
الموناليزا، على شهرتها، لم تكن عارضة أزياء لعصر النهضة، بل كانت تمثيلًا رمزيًا لفكرة التوازن والاكتمال.
جمالها ليس في تفاصيل وجهها، بل في الهالة التي تُحيط بها،
كأنها أتت من مكانٍ لا يُعرف، لتقول شيئًا لا يُقال.
كان دافنشي يرى المرأة امتدادًا للكون، كائناً له صلته بالنور والظل، بالماء والرياح، بالعقل والصمت.
لم يُغوِه الجسد، بل استوقفه التأمل.
لم يرَ في المرأة جسدًا يُمتلك، بل لغزًا يُقرأ ببطء، بعينٍ تحب الفهم أكثر من الحيازة.
🔥 بيكاسو: المرأة كمرآة للتمزق أما في لوحات بيكاسو، فكل شيء يتفتت.
الوجه يتكسر، الجسد يتشظى، العين تغادر مكانها، والفم قد لا يكون فمًا.
المرأة هنا ليست حضورًا مطمئنًا، بل كائنًا خرج من رحم العاصفة.
ليست رمزًا للسكينة، بل تجلٍّ للفوضى،
ليست صورة لامرأة، بل صورة لما فعلته المرأة به،
أو لما فعله هو في قلبه حين رآها، وأحبّها، وخافها، واشتهاها، ونفر منها.
كان يرسمها كأنما يحاكمها، لا كأنما يتأملها.
في كل لوحة، يخرج اللاوعي من قفصه،
وتنطق الفرشاة بما سُكت عنه طويلًا.
لم يكن الجمال عنده هدفًا، بل أثر جرح أو اشتعال.
لم يكن يهتم بملامح المرأة، بل بتمزّقها في داخله.
ولهذا، بدت النساء في أعماله وكأنهن كائنات من حلم مشوّه، أو كابوس لذيذ.
جاذبيتهن لم تكن في اكتمالهن، بل في تناقضهن، في هشاشتهن، في القدرة على أن يكنّ كل شيء ولا شيء في لحظة واحدة.
✨ الفن كأداة: بين التأمل والاعتراف
في لوحات دافنشي، الفن صلاة صامتة.
وفي لوحات بيكاسو، الفن اعتراف صارخ.
دافنشي يرى المرأة كما يجب أن تكون،
وبيكاسو يراها كما تفعله فيه.
الأول يؤمن بالتناغم، بالتكوين، بالهندسة الدقيقة للجمال.
والثاني يُسلّم نفسه للتيار الداخلي،
يُعطي اللاوعي المقود، ويترك القماش ليقول ما لا يجرؤ عليه العقل.
وهكذا، ترسم العين الأولى امرأة من نور ووعي وطمأنينة،
وترسم العين الثانية امرأة من نار، وقلق، وغريزة تتقاطع مع الذكرى والخذلان.
🪞 المرأة كمرآة لا كموضوع
المرأة في الفن ليست شيئًا يُرسم، بل شخصًا يُسكن اللوحة ليكشف من يرسم.
ولهذا، لا نخرج من أعمال دافنشي أو بيكاسو بصورة واضحة للمرأة،
بل نخرج بصورة أوضح لهم، هم أنفسهم.
فدافنشي كان يبحث عن نظامٍ أوسع من الفوضى،
وبيكاسو كان يغرق في الفوضى كي يرى ما تبقى من ذاته.
كلاهما رسم امرأة،
لكن إحداهن تنتمي إلى عالمٍ متوازن له مركز،
والأخرى تشبه الشظايا الطائرة من قلبٍ مفكك.
🎭 خاتمة: ما الذي نراه حين نرى المرأة؟
حين نرى المرأة في لوحة، هل نراها هي؟
أم نرى من رسمها؟
أم نرى نحن أنفسنا؟
ربما كانت المرأة في الفن، كما في الحياة، مرآة لكل هذا:
مرآة للزمن، للذات، للرغبة، للفقد، وللصمت العميق الذي لا يُسمّى.
د. صباح الجهني
نراها هي
ردحذفونراها انفسنا
عدا من رسمها لا نراه .
فما السبب في ذلك ؟
شكرا لمرورك
ردحذف