الأربعاء، 28 مايو 2025

اعترافات جبانة


 

"الاعتراف هو الخطوة الأولى نحو التحرر من أسر النفس"(سيجموند فرويد)

أقدم اعتذاري إليك، أيها الرجل..لا أستطيع الاعتراف، فأنا جبانة،لكنني سأستغفر الله في كل ليلة على تلك اللحظات التي هربت منك فيها إلى غيرك..برغم أنك تحتضنني في كل ليلة بين يديك،وترقب عيوني كل ساعة،وحتى لو لم تقل لي "أحبك" تلك الكلمات التي يتقن استخدامها الكذابون المنافقون،أولئك الذين تعودوا على السخرية من مشاعر الآخرين،يرمونها متى انتهت حاجتهم إليها،هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من البشر.

لا شيء عندهم دون مقابل.. هكذا هم.

­    كم هو سعرك؟

­    ما هو المبلغ؟

­    كم تحتاج؟

كل هذه العبارات هي التي تحدد ماذا تعني لهم،ماذا تساوي في نظرهم.

وكأنهم اعتادوا على التفاوض على ما لدى الغير،وحتى وإن لم يعرضوا بضاعتهم للبيع أو للتفاوض.

هؤلاء الأوغاد يعيشون غالبًا في الظلام،لا يستطيعون الظهور بهذا الوجه القبيح للآخرين.

تذكرت ذلك الرجل العجوز،الذي كان يسبقني بخطوة ويتراجع بخطوات أمامي،كنا نسير معًا في أحد المولات،وكان موعدي مع إحدى الصديقات لتناول القهوة.

دفعتني فضولي لمراقبة ذلك العجوز الأنيق،ببزة متناسقة الألوان،وحذاء جلد باهظ،وساعة لمعتها تخطف الأنظار.

أنا في الحقيقة لا أهتم بنوع أو اسم الماركات،لكن بريقها كان مميزًا، وأظن أنها كذلك.

الغريب أن ذلك المول متواضع جدًا،في منطقة شعبية يرددها عامة الناس من أصحاب الدخل المتوسط، بل الأقل من المتوسط.

أخذ ينعطف تجاه اليسار،وكان كأنه يقصد المكان الذي أريد،هنا توقف فجأة،وأدخل يده في جيبه،وأخرج مرآة،ونظر إلى نفسه وابتسم.

ابتسمت أنا أيضًا،ولا أعلم لماذا،ربما هي الحياة عندما تتداعب بنا بوجوه الآخرين

صديقته الصغيرة كانت تمسك بيده،طفلة صغيرة بعيون واسعة، تحمل براءة العالم،تلفتت نحوي بحذر،ثم نظرت إلى الرجل العجوز بابتسامة خجولة.

كانت تسأل بصوتها الرقيق:

"هل أنت سعيد"؟

توقف قليلاً، ثم نظر إليها بعينيه العميقتين،ثم أجاب بصوت هادئ ملؤه الحكمة:

"السعادة ليست في المال، ولا في المظاهر،السعادة في السلام مع النفس،وفي القدرة على النظر إلى المرآة والابتسام،حتى وإن كانت الحياة تأخذ منا الكثير"

في تلك اللحظة، شعرت بأن هذا الرجل العجوز يحمل بين طيات ابتسامته سرًا عميقًا.

سرًا عن الحياة، عن الإنسان، عن الحبوأدركت أنني، رغم جبني،ربما لم أهرب منك، بل كنت أبحث عن سعادتي،وأن السعادة، ربما، لا تكمن في الكلمات التي لا تقال،ولا في الوعود التي تنكسر،بل في ذلك الحضور الصامت الذي يحتضنني كل ليلة،وفي ابتسامة رغم الألم ..وفي نهاية الطريق،تغلق الكلمات أبوابها أمام صمت القلب،فتزهر أنامل الوفاء في هدوء النظر،وتنمو في الأعماق زهور الوجد بلا صراخ.

أنتَ يا من تسكن بين يديَ،وفي نسيج الصمت الذي يحيطني،كنتَ نبضًا لا يرى،همسًا لا يسمع،وأمانًا لا يقاس.

وهذا الحب، رغم جبني،ورغم هروبي المتكرر،يبقى قصيدة تكتب في ليالي السهر،تستغفر الله على ضعفها،وتشكر قلبًا ظل صامدًا،لا يهرب.

د.صباح الجهني

ما تبقّى منّا في الآخرين

 


الصداقة كالحياة، لا يمكن أن تُختزل في قوانين، ولا تُقاس بمقاييس البشر.

هي كالنهر، تمضي بلا وعدٍ بالبقاء،لكنها تترك أثرها في التربة، مهما تغيّرت الفصول.

نعيشها بين ومضات الفرح ونوبات الحزن،كأنها تجربة وجودية نمرّ بها، لا لنفهمها، بل لنشعر بها.

أحيانًا..نضحك حتى تدمع أرواحنا،وأحيانًا نبكي حتى نتساءل:

"هل بلغ بنا الشعور حدّ الجنون"؟

الصمت.. الدموع المنفجرة.. ليست مجرد ردود فعل، بل لغة أخرى للروح،لغة تعجز الحياة بكل تفاهتها أن تحاصرها في موقفٍ واحد.

في لحظة واحدة،تنعكس علينا مرآة مختلفة .. لا لتريك الواقع بل لتكشف ذاتك كما لم ترها من قبل.

نعم، يمكن هدم كل الصور.. إلا تلك التي يُمسك الزمن بخيوطها،فهي وحدها الباقية،شاهدة لا على ما عشناه فقط،بل على ما كنا نظنه مجرد عبور.

ثم يأتي الإحساس بالقيمة،وتعصف بك الحيرة،وتشتد حولك القيود،فتنسحب،يختلّ توازنك،ويبدو الظلم كأنه يدفعك للتخلص من كل ما يحاول ربطك.

ومع ذلك،يبقى هناك نوع نادر من التواصل .. تواصل روحي لا يصنعه النَسَب، ولا يقيده العرق أو الدم،بل تنسجه خيوط من الاحترام والشفافية،وتحفظه روح الصدق بين الأصدقاء.

"يظن الناس أن ما يهم في الحياة هو الحب. لكن الحقيقة أن ما يهم هو أن يكون لديك ما تعيش من أجله"..( أنطون تشيخوف )

د. صباح الجهني


الثلاثاء، 27 مايو 2025

متى نتعلـم ؟ متى نتحرر ؟

   


" أنا لست ما حدث لي.. بل ما اخترت أن أكونه "

                            فرجينيا وولف

ثمة لحظة داخلية لا تعلَن، لكنها تشطر الإنسان نصفين. لحظة نضج لا تأتي من القراءة أو التراكم، بل من الشرخ، من الشك، من ارتطام القلب بما لا يحتمَل.

في وجه الألم، تنقلب موازين الفهم.

حين نعتبر الألم والكسرة لحظة تأمل لا تهشيم، يتغير شيءٌ فينا.

نصبح نرى العالم بعين ثالثة، لا هي عين العقل المجرد، ولا عين القلب العاطفي، بل عينٌ تجمع بينهما وتنظر من الداخل.

حتى فتات أفكارنا المسكوبة تصبح قابلة للفرز، للحكمة، للخلق.

هكذا نتعلم.

نتعلم عندما نصيغ أخلاقًا جديدة تتلاءم مع “العدل الرحيمي” عدلٌ لا ينتقم، بل يربت على الكسر ويرممه بلطف.

عندما يصبح السلام مع فئات الناس خطابًا داخليًا لا مرهَفًا، يرفض إبطال دهشته، ويدرك أثر الحنان في العائلة، وعمق الجدوى في العلاقات.

الفتاة التي تسكنني – أو أنا التي تسكنها – تعيش بين مفارقة الحرية والقيود.

مفعمة بالتحرر، ومختنقة بكبرياء الألم.

تقاوم..لكنها لا تكسر.

تختنق..لكنها لا تبوح.

تلتزم الأخلاق لا حبًا في القيود، بل لأنها لا تزال تجرب أن تكون هي… رغم كل شيء.

هذه الفتاة لا تملك رفاهية الانبهار..لأن صدماتها كانت دومًا "مسبقة مهذبة"توقعتها فخف أثرها،لكنها تركت أثرًا داخليًا شاسعًا، لا يمحى.

ومع كل لقاء جديد، لا تكتنز كثيرًا من الذكريات.

تسجل في داخلها حالة عابرة من الانتباه، ثم تمضي.

ذلك أن الذاكرة لم تعد مأوىً آمنا، بل مكانًا متوترًا مشحونًا بالافتراضات والتجارب المؤجلة.

الفرق الحقيقي، يكمن في هذا السؤال:

هل تسامي قلبك الوجود؟

إن لم تفعل، ستظل تتعلم متأخرًا، وتستمر في استنشاق الضمور من الحزن، وكأن الحزن أصبح لك عادة.

التحرر لا يبدأ من كسر القيود، بل من كسر عادة الصمت تجاه النفس.

حين نصغي لأنفسنا في صدق، سنتعلم… ونتحرر

د. صباح الجهني

الاثنين، 26 مايو 2025

حضرة الصمت


" في حضرة الصمت "

أرغب بالكتابة.. إلا أنني لا أستطيع.

كم يبدو الأمر مضحكًا حين يُقال هكذا، مجردًا، بلا تبرير أو زخرفة.

لكن هذه هي الحقيقة — حقيقة لا أملك أن أنكرها، ولا أقدر أن أفسرها.

أجلس أمام الورقة، كأنني أراهنها على من سيكسر صمته أولًا. هي تلوّح ببياضها المستفز، وأنا ألوّح بنيّتي الطيبة.

وأظل هناك، معلّقة بين جُملٍ لم تُولد، وكلمات تعرف طريقها لكنها تأبى الخروج.

أفكر أحيانًا:

ماذا لو أن ما يمنعني ليس العجز، بل الخوف؟الخوف من أن تقول الكتابة ما لا أجرؤ على مواجهته؟

الخوف من أن تُخرجني الكلمات منّي، من قناعاتي الصغيرة، من صمتي الذي ظننته طمأنينة.

أتذكّر حينها قول كافكا:

“لا تكتب إلا إذا خرجت الكلمات من قلبك كخنجر يمزقك، فإن لم تكن كذلك، فلا تكتب”

وأنا… لا أريد أن أُمزّق.. ليس اليوم.. ليس بهذا الصمت المؤلم. أريد فقط أن أبقى هنا،في حضرة السكون،أراقب حيرتي كما لو كانت طائرًا مترددًا على حافة نافذة.

ربما تعود.

ربما الغد، أو بعده، سيجيء الخنجر ..أو تتسامح الكلمات. فالكلمات لا يصعب قولها إذا وجدت السبب.

أما الآن، فسأكتفي بالاعتراف:

أرغب بالكتابة وهذه الرغبة وحدها في زمن الصمت ، تشبه القصيدة.

قصيدة تحكي فوضى العواطف التي تبعثرت بيد الآخرين،تلك التي تحتاج إلى شخصٍ يصنع لك من العجز إيمانًا،إيمانًا لا يخرج إلا من قلبٍ عبقري.

د. صباح الجهني


السبت، 24 مايو 2025

القصة لم تبدا بعد



كانت تمشي بخطى ثابتة، رغم أن الريح كانت تعصف بثوبها وتلطم وجهها بشيء من الغضب.

لم تكن تنظر إلى الطريق، بل إلى الداخل. هناك، حيث تتراكم الحواجز… تلك التي لا ترى، لكنها تثقل الخطى.

تذكرت شيئًا قديمًا، ربما حكاية، أو صدى حلم لم يكتمل.

قالت في نفسها:

الحواجز في الحياة ليست كما تبدو… إنها لا تنهار، بل تتبدل، تتنكر بثياب جديدة، بلونٍ مختلف، لكنها تظل حاجزًا.”

كانت تعرف أن الصعوبة الحقيقية لا تكمن في تجاوز ما يعترضها، بل في الحفاظ على إنسانيتها وهي تعبر.

ذلك الخيط الرفيع الذي يقاوم الرتابة، لا عن جنون، بل عن رغبة.

رغبة في أن تبقى حية… بطريقة لا تفسد قلبها.

عبرت زقاقًا ضيقًا، كان المطر قد بدأ يسيل بين شقوقه. استمعت إلى صوته، كأن في كل قطرة اعترافربما من ملاك،ربما من شيطانٍ نادم.

 ليسوا أقوى منا…”

همست :نحن من نمنحهم قوتهم حين نخاف، حين نتردد، حين نكتب رسائل المحبة ونرسلها لأرواحٍ لا تعرف إلا الحقد، ثم ننتظر أن يفهمونا.

ابتسمت بسخرية، وكأنها اكتشفت سذاجتها للمرة الألف.رفعت رأسها فتقاطع نظرها مع نافذةٍ صغيرة مضاءة من الداخل، وفيها ظلٌ غريب يتحرك ببطء.

توقفت.

 لا أحد يستطيع سرقة رسالة لم أقرر إرسالها

كان هناك شيء ثقيل، ساكن، في عمقها، شيء لا تستطيع قوله.

لكنه أيضاً لا يمكن إنكاره.

المطر اشتد والريح بدأت تئن.

تساءلت إن كان الشياطين يخلطون بين صوت الريح وصوت رسائلهم التي لم تصل.

الرسائل التي كتبها الضعف باسم الحب، ثم خذلها.

تقدمت خطوة..نظرت خلفها، ثم ابتسمت كأنها تعرف الآن:

أن القصة لم تبدأ بعد..

د. صباح الجهني


الأحد، 1 ديسمبر 2024

الهروب الثلاثي


يأخذك الحنين إلى أبعد ما تكون عليه..من انشغالات وسهرات وأمسيات لليلة  تملأ وقت الفراغ ..تخرج من الالتزامات.  

تهرول  نحو الفضاء بعيداً عن قيود العالم المزعج ..تحاول السيطرة على نفسك وضبط إعدادات جسمك،حتى تحررها من فوضاء الشعور.

تلتقي بها أرواحنا البائسة،تحت عروش مملكتنا المتعددة،تحت علامات اللقاء والارتقاء ،تحت سنوات البحث والتمحيص،تحت نهر الكلمات المتدفقة،كسيل يغرقك حتى تستطيع الخضوع .

يزعجني هذا الهاجس،ويتخلل يومي بصور الطيف المتنوعة.لكن بسرعة تتراجع كل المشاهد..واستقر على مشهد واحد.للامبالاة نحو الغروب،نحو نهاية اليوم،نحو الصباح الذي كان جزء مني،نحو الأمل الذي  فقدت..ونحوك أنت. 

أنت ذهبت بلا عودة . 

الصورة المفخخة تلك..تدمرت بالنسبة لي وأصبحت صورة لرجل عابر..من زمن غابر .

وأنا أكتب تلك الكلمات،اتصلت بي صديقتي الجميلة،رقيقة الإحساس طيبة المشاعر صاحبة القلب الدافئ "دانا". 

أي رياح الحب قذفتك علينا..وأي شمس قررت الظهور لنا،بسرعة يا عزيزتي أريد منك خدمة !

ماذا عساي أن أخدمك أيتها الشمس المتلألئة شعاعاً للحالمين أمثالي .

ضحكت وقالت:أريد أن اهرب إلى مكان بعيد يومين فقط معك ومع صديقتنا الشقية،تلك صاحبة الأفكار العجيبة هي دائماً من يرشدنا في طريقنا إذا تعثرنا،يمكن لنا الاعتماد عليها،هي جيدة في أدارة التفاصيل . 

تم الاتفاق وانطلقنا في رحلتنا،لم نخطط للخروج إلا في ساعة!

وتم حجز الشاليه بأقل من ربع الساعة،لقد تم كل شيء بسرعة هكذا البشر عندما يريدون شيء،يسرعون في تحقيقه.

لم أكن جاهزة بشكل كامل،إلا أنني حاولت أن أبسط الموضوع وأخرج بأقل من احتياجاتي لمثل ذلك اليوم..هذا التحدي جيد بنسبة لي .

وصلنا الشاليه وكل منا أخذت زاوية...وعم الصمت .

 دانا ذهبت إلى غرفة النوم ونامت..وكأنها تفتقد تلك الحالة من الهدوء النفسي الغير معلن،تلك الخلوة ربما هي ما ينقصها عندما يتحدث اللاوعي،يخبرنا أشياء نحن أيضا لا يمكن أن نلامسها .

أما عبير فقط أخذت لنفسها مكان في أقصى الحديقة،وأخذت تتأمل الطيور والأشجار بصمت،لم تنم كثيراً وأخذت تراجع حساباتها القديمة مع نفسها..كانت تحدث نفسها كثيراً وتنظر لما حولها،وكأن شيئاً يخنقها ويقف بطريقها،لكنها كانت صامتة وقوية. 

جلست في الصالة الكبيرة  تتأمل محتوياتها..كان بها تلفاز كبير جدا تصدق أنني أضعت نصف يومي،وأنا أتابع بعض البرامج التي من شهر لم استطيع متابعتها،بسبب أن تلفاز البيت محترق ولم استطيع تصليحه .

لم اشعر بصديقاتي..تلاشت من حولي كل الاهتمامات،وأصبحت أتابع التلفاز بصمت واستمتاع،بلا ضجيج ولا صخب..غارقة في هدوء الوحدة ودوامة التوتر الأبدي..خارت قوي وأصابتني بتعب تتوق النفس أحيانا للخلوة و فعل ما تريد فعله،حتى الصراخ أنت حر في إطلاقه،هنا لا احد يسمعك،ولا تثر العواطف تجاهك بلا شك أنت هنا جزء منفرد بحالك . 

ملحوظة: 

بعد نهاية اليوم..وعندما أفرغنا خيالاتنا الزائفة،بالهروب وشعرنا بإحساس  الوحدة ،قذفنا تلك السعادة وتراجعنا نتجرع سم الواقع المرير،لم يكن الهروب هو أحلامنا،بل كانت تلك هي خطوة البداية لرحلات قادمة بلا خوف ولا تردد .

 

د. صباح الجهني


دفاتر الحنين

  دفاتر الحنين حين يصبح الحب ذكرى لم تولد بعد ذاك الحب لا يموت. يتحول إلى ظلّ، إلى نغمة عابرة في لحظة صمت، إلى طرف غيمة تمرّ في السماء، ف...