ماذا …. لو
قالها بهدوء، كمن يُلقي جملةً يعرف تمامًا أنها لن تُنسى.
كان صوته يشبه ملامحه: مطمئنًا، خفيفًا على القلب، لا يرفع سلاحًا،
ولا يحمل حاجة للإقناع.
قالها وهو يرمقها بعينٍ تشبه الغيم قبل المطر…
ساكنة، لكنها ثقيلة بالوعد.
تلك النظرة لم تكن رومانسية، ولا ملتهبة
بل كانت شيئًا آخر… شيء يشبه البيت.
هي لم تكن تنتظر أحدًا.
ولم تكن في لحظة انكسار أو ضعف حين التقاها.
كانت واقفة بثبات امرأةٍ اكتفت من كل شيء، حتى من الحلم.
مشغولة بترميم ذاتها، بحراسة صلابتها،
بممارسة الحياة كما يمارسها الناجون
بهدوءٍ مشوب بالحذر، وبقلبٍ لا يفيض إلا على نفسه.
منذ زمن طويل قرّرت أنها لن تسقط مرة أخرى.
ليس لأنها أقوى.
بل لأنها تعلمت ثمن السقوط.
تعلمت أن الأرض لا تحتضن.
وأن أغلب الأكتاف لا تُعتمد.
أن الأقرب قد يكون أول من يبتعد،
وأن الطمأنينة، في هذا الزمن، نادرة كنداءٍ صادق.
لكنّه اقترب.
ولم يطلب شيئًا.
لم يفتح بابًا ولا طرق نافذة،
بل حضر… ببساطة حضور الضوء في الظلام.
لا يتوسل أن يُرى،
ولا يفرض نفسه…
يكفيه أن يكون.
كان صوته لا يرفع إيقاعه.
كلماته لا تبحث عن إعجاب.
ونظراته لا تفضح رغبة… بل تهمس بالأمان.
وهي، رغم كل ما أحاطت به نفسها من منطق.
رغم كل “اللاءات” التي تعلّمت تكرارها.
شعرت بشيء ما يتزحزح بداخلها.
شيءٌ يشبه: “وماذا لو؟”
اقترب كما يقترب الأصدقاء القدامى بعد قطيعة طويلة
بحنينٍ لا يُعلن عن نفسه.
وبرغبة في البقاء لا تُشهر سلاحها.
اقترب حتى صارت المسافة بينهما قاب قوسين من الطمأنينة.
كانت تراقبه بصمت،
وفي أعماقها تدور كل الحوارات التي لا تُقال:
“هل أستطيع أن أستريح؟
هل يمكنني هذه المرة أن أسمح لقلبي أن يميل دون أن يُكسر؟
هل أُجرب… أم ألوذ بالعقل؟”
لكن العقل خذلها هذه المرة.
خذلها لأنّه لم يجد تفسيرًا لذلك الشعور الذي ينمو بصمت،
كالنبتة في التربة القديمة.
نبتة لم تُسقَ منذ أعوام، لكنها الآن تميل نحو الضوء.
وفي مساء بطيء،
مساء لا يشبه المساءات التي اعتادتها،
حين كانت وحدتها صاخبة والمكان ضيقًا رغم اتساعه،
نظرت إليه طويلاً،
وكأنها تفتّش عن الدليل الأخير…
العلامة التي تقول: “نعم، هذا هو.”
وكانت هناك… في عينيه،
تلك الجملة التي لا تُقال:
“أنا هنا… لا لأُغيّرك، بل لأراك.”
سقطت.
لكنها لم تسقط كما يسقط الضعفاء.
سقطت كما يسقط الغيم حين يُثقل عليه الماء
برحمة، وبرغبة في الانسكاب.
لم تكن انحناءة هزيمة، بل استسلام واثق.
استسلام امرأة تعبت من الركض
فقررت أن تجلس، أن تتنفس
أن تسمح لأحدهم أن يحمل عنها الحِمل قليلاً.
ابتسامة هادئة، بعيدة عن لهفة المراهقة
قريبة من نضج الخائفين الذين وجدوا أخيرًا من يحتملهم.
ابتسامة من فهمت الدرس الذي يأتي متأخرًا
أن السقوط ليس ضعفًا إذا كان في حضرة من “يسوى”.
بعض الرجال لا يحتاجون إلى تقديم أنفسهم.
يكفي أن يكونوا… في حضورهم الطمأنينة،
وفي كلامهم السند،
وفي قلوبهم المساحة التي تسمح لك أن تكون،
كما أنت… دون تبرير، دون أداء، دون دفاع.
في نهاية المشهد،
حين عاد كل شيء إلى سكونه
لم تكن هناك موسيقى درامية
ولا إعلان حب.
كان هناك فقط… راحة.
شيء لم تعرفه منذ زمن،
شيء لا يقال، بل يُعاش.
وهي، التي كانت تظن أنها لا تسقط،
اكتشفت أن السقوط، أحيانًا،
هو أعظم وقوف.
د. صباح الجهني


مبدددددددددددعه
ردحذفسقطت كما لم تسقط من قبل
ردحذفجميل جدا رائع♥️
ردحذف