رجعت إلى ذلك المكان بعد غيابٍ طويل..كان
كما هو،ساكنًا،محتفظًا برائحة الماضي.
لكنني..لم أكن أنا!!
شيء ما في داخلي تبدل،تهشم،أو لعلي فقط
بدأت أرى الأمور على حقيقتها. أردت أن أخرج من التفكير،أن أهرب من كل تلك الذكريات المتربصة على
الأرصفة،لكن الخطوات كانت مثقلة، كأن الأرض نفسها تمسك بي.
لم تكن نهاية السيناريو.. بل كانت
بدايته.
بداية قصتي معه.
تذكرت الوداع،لا كما حدث،بل كما شعرت
به..لن أخبره أنني جمعت كل الوجوه التي حولي وصنعت منها وجهه.
لن أخبره أنني حفظت ملامحه في زاوية
عميقة من ذاكرتي،حتى صارت هي الذاكرة.
في زحام الحياة، كانت صورته تلمع في
عيني،تهمس لي:
"أنا هنا..لا تخافي "
صوته كان يأتي من بعيد..يشق ضجيج
المدينة، كأنه يقول لي:
"نحن لا نموت حين نفترق..بل نحيا في
قلوب من نحب "
لكنه..لم يكن يعرف كيف يحب.
كان رجلاً شرقيًا..يريد امرأة تحبه كما
الأم،وتفهمه كما الأخت،وتشتهيه كما العشيقة،وتغفر له كما القديسة.
يريد منها أن تعطي..دون أن يَمنح..أن
تصمت حين يغيب،وتشتعل حين يعود.
كان يريد قلبي..لكنه لم يعطني حضنًا.
يريد روحي..لكنه لا يتحمل دموعي.
يريد أن أكون له..دون أن يكون لي.
كلما اقتربت منه، اتسع بيننا الفراغ،يحدق
بي بعيون الحب،ثم يشيح بنظره حين أطلب منه وضوحًا.
يقول لي:
"أنتِ امرأة لا تنسى"
لكنه ينساني كل مساء في عيونٍ أخرى.
كم من مرة حاولت أن أطرد ملامحه من
رأسي؟ لم أستطع.
كان جزءًا من أنفاسي،من وحدتي،من ضعفي،ومن
شوقي.
تمنيت أن أذوب بين أضلاعه،أن يضمني حتى يتحرر جسدي من الشوق،وتبرد نار الاشتياق داخلي.
تخيلته يهمس في أذني،وراسي مستند على
صدره:
"لماذا الرحيل" ؟
أردت أن أجيبه:
لأنك أردتَ امرأة تذوب فيك،ولم تفكر
يومًا أن تذوب فيها.
أردت أن تعاش،لا أن تشارك.
أن تملك،لا أن تحب.
أنا يا هذا،لم أخلق لأكون ظلًا لرجل لا
يرى في إلا امتدادًا لصوته.
أردت أن أعيش معك.
لكنك أردت أن أعيش لك.
واليوم.. أنا أختار أن أعيش لي.
في تلك اللحظة،وسط المكان الذي عرفنا
فيه البداية،شعرت بنهاية لا تشبه الانكسار،بل تشبه الفجر بعد ليلٍ طويل.
ذلك الحزن الذي كان يغلفني،لم يعد
ثقيلًا كما كان،بل صار خفيفًا، كأنه شيءٌ كنت أحتاج أن أودعه لأفهمني.
نفضت عني غبار الذكرى.. رفعت رأسي وابتسمت.
لأول مرة أدركت أنني لم أكن أفتقده،بقدر
ما كنت أفتقد نفسي حين كنت معه.
لم يكن هو من سكنني،بل الفراغ الذي كنت
أملأه بحضوره الغائب.
سرت خارج المكان..خطواتي كانت أكثر
ثباتًا، أكثر وعيًا.
ما عدت أريد صوته في الزحام،ولا صورته
في خيالي،ولا وعوده المعلقة في الهواء.
أريده فقط… أن يبقى خلفي.
وأنا أمضي إلى حيث أنتمي.
إلى امرأة لم تعد تنتظر،لم تعد تبكي،لم
تعد تذوب.
بل تنهض،وتكتب،وتخلق من الوجع قصتها.
د. صباح الجهني