مرآه مقلوبه
جلسنا متقابلين، والهواء بيننا مثقَل بما لم يُقل بعد.
كنتُ أبحث عن كلمة تصف ما يختلج بداخلي، شيء حارق.
شعور لا أستطيع ترويضه.
قلتُ له فجأة، كأن لساني سبق قلبي:
– “أتعلم؟ هناك كلمات لا تصفك أنت، بل تصفني أنا… ومع ذلك ألصقها بك.”
ابتسم بخفة، ثم مال بجسده للأمام وقال:
– “تريدين أن تقولي إن ما أسمعه منك ليس عني، بل عنك أنتِ؟
وصلتني الكلمة كرصاصة صغيرة لا تُرى، لكنها تصدح داخل الصدر بطبلٍ عالٍ.
قالها كأنما يلقيها من نافذةٍ بعيدة، لا يتوقع أن تصل إلى داخل عُمقٍ نقيم فيه حياتنا.
لم أكن فقط مجرّحة من المعنى؛
بل أُهانت لأن لفظه اختزلني في صورةٍ قبيحة لا أعرفها.
حين سمعتُها، بدا لي أن المرآة قد انقلبت فجأة أمامي.
لم تعد تعكس وجهي كما أراه، بل أطبقت عليّ صورةٌ مشوّهة أُرادت لي بها.
الكلمة التي أطلقها لم تلمس سطحًا فقط؛ دخلت إلى الداخل
وبصمتٍ جعلتني أشكّ في ذاتي. كانت قسوتها عليّ أشد من وقعها عليه، لأن من يُلقيها لا يرى جرحك فعلاً
هو يرى بزوغ ظله ويقذفه، وذاك الظلّ يلتصق بك كما لو أنكِ اخترتِه.
لم يكن الألم الذي شعرت به غيرة أو مجرد إحراج
كان ذلًا عميقًا. ذل أن تُدانِين بلا محاكمة
أن تُحبَط قدرتك على الدفاع لأن الصدمة أكبر من اللغة.
الكلمة لم تجرح سُمعتك فحسب
بل حفرت داخل زواياك المحمية، وأجبرتك على إعادة فحص كل لحظةٍ منكِ
هل أنا هكذا؟
هل رآني الناس كما رآني هو؟
ثم جاء الإدراك البارد
ربما لم تكن الكلمة موجهة إليّ كحقيقة
بل كانت مرآته المقلوبة، انعكاسًا لما لا يريد أن يراه في نفسه. او في أهله .
هذا لا يخفف عني الألم، لكنه يضيء جانبًا مؤلمًا أن تكوني مرآةً يعيش الآخر من خلالها، دون أن تطلبي ذلك.
بعد الصمت، بقيتُ مع حطام المرآة.
كل قطاعة كلمة تتلألأ بخجل وكأنها تهمس
هذه ليست صورتك. لكن استعادة الصورة الحقيقية تحتاج وقتًا
تحتاج أن تقطعي الشريط الذي ربطك بصورةٍ لم تختاريها.
وهو وقتٌ ثقيل، لكني بدأت فيه أُعيد ترتيب مرآتي بنفسي ببطئ
قطعة بعد قطعة، حتى أتذكّر أن الكلمة قد غُرِزت فيّ من الخارج — وأنا من ستخرج منها أقوى، أو على الأقل أصدق مع ذاتي.
د. صباح الجهني



تعليقات
إرسال تعليق