منبر النور والظلام
حين يعتلي الخطيئةُ منبرَ الطهر
لم يكن المكانُ مكانًا
بل فراغًا رماديًّا ممتدًّا بين ظلالٍ تتلوّى ونورٍ لم يكتمل بعد.
في هذا الفراغ كانت القيمُ جالسة، تنتظر، تتأمل
وكأنها لم تعرف يومًا من ينطق باسمها بصدق الفضيلة جلست باكيةً …. الطهر متأملًا الصدق مترددًا…..
والزيف يراقبهم من الزوايا، يبتسم في صمت،
كمن يعرف أن لعبة الظلّ بدأت لتوّها.
ارتفع شيء من الظلام، متخفّيًا في هيئة نورٍ باهت. كانت الخطيئة تصعد إلى المنبر بخطواتٍ لا تصدر صوتًا
لكنها تُشعر المكان بوجودها …… كما يشعر المرء بريحٍ خفية تمرّ فوق سطح ماءٍ ساكن. تزيّنت الخطيئة بكلماتٍ منمّقةٍ متلألئة تتناثر في الهواء كزخارف من ذهبٍ مزيف لكن كلّ حرفٍ كان يحمل نكهة الخداع. ويُخفي وراءه الصمتَ الطويل للأخلاق تحدثت عن الطهر
فاهتزّ الطهر في مكانه كمن يسمع اسمه على لسان غريب
ثم حاول أن يرتفع، لكن وزنه من الألم والخذلان بقي يحمله نحو الأسفل. تحدثت عن الصدق
فارتعشت الحقيقة برعشةٍ خفية
كزهرةٍ تنتفض حين يلمسها ظلّ غريب.
وحين نطقت بكلمة “الضمير
مرّ الهواء البارد عبر الفراغ
وأحسّ كل شيء بالجمود
كأن شيئًا من الموت مرّ بين الموجودات
يُعيد ترتيب المشهد برفقٍ مخيف.
الفضيلة لم تتحرك
لكن عينيها كانتا تقولان كلّ شيء
تتأمل كيف يمكن للرذيلة أن تتزيّن بثيابها
وتسرق صوتها تختبئ خلفه، وتخدع كلّ من يراقبها.
في الزوايا، جلس الزيف يصفّق بإعجاب
والحق انحنى
لكن لم يكن خجلًا فقط بل استسلامًا مؤلمًا للمشهد. ولم تكتفِ الخطيئة بخطبتها الأولى
بل لبست وجهًا جديدًا وجهًا بشريًا يلمع كالمرايا المصقولة، تتكلّم بثقةٍ مصطنعة
وتدّعي أنها وحدها تعرف طريق النقاء.
كانت تتحدث بلسانٍ مدهونٍ بالحكمة
لكن في عينيها يسكن غرور ًقديم
وكراهيةٌ تُجاه كلّ من لا يعبد صورتها.
ادّعت الفضل وهي عكسها
تنتقد الجميع لتُخفي هشاشتها
تدين الآخرين لتُبرّئ نفسها من عجزها
وتحمل في صدرها مرارةً لا تنتهي
قالت لي بصوتٍ مكسوّ بالوصاية
“كيف تعرفين هؤلاء السفهاء؟
كيف تجالسين من لا يليقون بك؟
ابتسمتُ بمرارة، وقلت في نفسي
“ليست كلّ الطرق من اختياري
فبعض البشر يعبرون حياتنا كما تعبر الريحُ الصحراء لا نختارهم، لكنهم يتركون أثرهم
ولا ذنب في السير بين الحصى ما دام القلب لم يتّسخ كانت تظنّ أن معرفتي بالناس خطيئة وأنّي أحمل وزر من يمرّ بطريقي
لكنها لم تفهم أن الطهر لا يخاف الممرات الموحلة لأنه يعرف كيف يعبرها دون أن يسقط.
هي الخطيئة إذًا لكن في شكلٍ جديد
نرجسيةٌ متورّمة، تدّعي الكمال وتخشى الحقيقة
تعيش على انتقاد الآخرين لتتوهّم النقاء. وحين انتهى صوتها
سكت المكان
وصار الصدى وحده يتردّد يحمل في نبرته سخريةً خفيّة كأنه يقول الخطر ليس في الخطيئة التي تُرى بل في تلك التي ترتدي ثوب الفضيلة
وتجلس على منبر الطهر لتدين الطهر نفسه.
وفي ذلك المساء الرمزيّ،
تعلّم المكان درسه الأبدي
أن الكلمات حين تفقد صدقها
تصبح أقنعةً رائعة لأقبح الوجوه
وأن الزيف حين يتقن التمثيل
يستطيع أن يخدع الضوء
ويُقنعه بأن يصبح ظلًّا.
وهكذا………
سُجّل في ذاكرة الوجود أن الخطيئة قد صارت واعظةً للطهر وأنّ النقاء الحقيقي لا يُعلن عن نفسه
بل يظلّ صامتًا…
يُراقب من بعيد….
ويعرف أن الزمن وحده….
هو من يكشف الأقنعة…..
د. صباح الجهني



اجمل الكتابات التي راتها عيني
ردحذفولا هو شي غريب على الدكتوره صباح الجهني ابدددداع❤️
🌹🌹
ردحذف