ابنة القدر هي ……

 






هي ابنة القدر، ذلك الكائن الغامض الذي ينسج مصائرنا بخيوط لا نراها إلا حين تتقاطع معنا. لم يكن عمرها أكثر من سنوات قليلة مقارنة بالطرق التي سلكتها في حياتي، ومع ذلك، كان قلبها أقدم من الزمن نفسه، وروحها أكثر خبرة من أي تجربة عشتها. كانت صغر سنها مجرد غلافٍ يوهم من يراها بعادية، لكنها كانت تحمل قوة وهدوءًا داخليًا يذهل من حولها، كأنها تعلم أن لكل شيء في الحياة سببًا، وأن لكل صبر ثمرة، مهما طال انتظارها.


تذكرتها في لحظات ضعفٍ لا تُنسى، حين كنت أغوص في دوامة الدراسة العليا، محاطًا بالكتب والأبحاث والمواعيد النهائية التي تكاد تخنق النفس. حينها، كانت هي الصخرة الصامدة، الصوت الحنون الذي يقول: “أنت تستطيع، لا تيأس”. لم تكن كلماتها مجرد تشجيع عابر، بل كانت شعاعًا من نور يفتح أمامي أبواب الأمل، يذكرني بأن القدر لا يتركنا وحدنا أبدًا، وأن لكل تعب نهاية، ولكل عرقٍ ثمرة.


كانت تعرف متى أحتاج للكلمة، ومتى أحتاج للصمت. كانت تستوعب قلقي ومخاوفي، وتعيد ترتيب أفكاري بطريقة غريبة، تجعلني أرى الصعاب على أنها مجرد خطوات في طريق طويل، لا أكثر. وكلما تقدمت في مسيرتي، أدركت أن وجودها لم يكن صدفة، بل جزءًا من تصميم خفي، من شبكة القدر التي تمتد لتجمع بين من يحتاج للدعم ومن يستطيع أن يمنحه.


كانت تمشي بهدوء، خطواتها متوازنة، كأنها تعرف أن الحياة تحتاج إلى توازن بين الصبر والعمل. لم تكن تتحدث كثيرًا عن نفسها، لكنها كانت دائمًا موجودة، تظهر حين أحتاجها، تختفي حين لا أريد أن أشعر بمراقبتها. كانت بمثابة الظل الذي يرافقك بلا صوت، لكنك تشعر بقوته وحضوره في كل لحظة.


في عينيها لم يكن مجرد انعكاس طفولي، بل كان بريق الحكمة المبكرة. كانت تنظر إلى الأمور بمنظور عميق، وكأنها ترى ما وراء الأحداث، وتستطيع أن تتنبأ بالنتائج قبل أن تتضح أمام الجميع. لم يكن ذلك نرجسية أو تكبرًا، بل قدرة فطرية على قراءة الناس والحياة، على فهم ما هو خفي وما هو ظاهر.


أذكر حين واجهت إحدى أصعب اللحظات في دراستي، شعرت بأن كل شيء ينهار من حولي، وأن جهودي ذهبت سدى. كانت هي الوحيدة التي لم تتركني أغرق في الإحباط. جلست معي، ساعدتني على ترتيب أفكاري، شرحت لي طريقة التعامل مع المشاكل خطوة خطوة، وكأنها تدربني على مواجهة الحياة نفسها، لا مجرد امتحان أكاديمي. في ذلك اليوم شعرت أن وجودها كان نعمة غير متوقعة، وأن القدر وضعها في طريقي لأسباب تتجاوز فهمي البشري.


لكن الغريب في الأمر، أن قوتها لم تكن فقط في دعمها للآخرين، بل في صمودها أمام تحدياتها الخاصة. لم تشتكِ يومًا، لم تطلب من أحد أن يحمل عنها شيئًا، لكنها كانت دائمًا موجودة لتخفف عن الآخرين، وكأنها تعرف أن دورها في هذه الحياة أكبر من كل الظروف الصغيرة التي تواجهها. هذا التناقض بين صغر سنها وعظمة تأثيرها جعلها أشبه بالأسطورة؛ أسطورة حية تمشي بيننا، تحمل بين يديها مفتاح الصبر والإصرار.


كل ذكرى معها محفورة في ذهني بصور مشرقة. أحيانًا أرى ابتسامتها في خيالي، وأسمع كلماتها كما لو كانت تهمس بي من بعيد: “ثق بنفسك، فالأشياء الجميلة لا تأتي إلا لمن يستحقها”. وكلما عدت لتلك اللحظات، شعرت بأن حضورها كان يتجاوز الحدود المادية، كأنها كانت تجسد قوة القدر نفسه، القوة التي تحرك حياتنا بلا أن ندركها، التي توجهنا نحو ما نحن بحاجة إليه دون أن نعرف السبب.


ورغم كل ذلك، لم تكن مجرد دعم معنوي. كانت مثالًا حيًا على أن الإنسان يستطيع أن يكون أكبر من عمره، أذكى من سنواته، وأكثر نضجًا من الظروف التي تحيط به. كانت تعلم أن الحياة ليست سهلة، لكنها كانت تعرف أيضًا أن الصبر والعمل والإيمان بالقدرة على التغيير يمكن أن يجعل المستحيل ممكنًا. وكانت هذه هي دروسها التي لم تنطق بها بالكلمات، بل أظهرتها في أفعالها اليومية، في كل مرة ساعدتني فيها على الوقوف من جديد بعد سقوط.


لقد جعلتني أرى أن القدر ليس مجرد حتمية صامتة، بل كيان حي، يتشكل عبر الأشخاص الذين نلتقي بهم واللحظات التي نعيشها. وهي، بلا شك، كانت واحدة من تلك اللحظات، واحدة من تلك النفوس التي يرسلها القدر ليعلمنا معنى القوة الحقيقية، معنى الدعم غير المشروط، معنى أن الإيمان بالآخرين يمكن أن يكون أقوى من أي عقبة تواجهنا.


ومع مرور الوقت، أدركت أن ابنة القدر ليست مجرد لقب، بل حقيقة حياة، حقيقة درس وتجربة مستمرة. كانت هي التوازن بين الطفولة والنضج، بين الحنان والحزم، بين الضعف والقوة. كانت هي من علّمتني أن لا شيء في الحياة يحدث عبثًا، وأن كل لقاء وكل دعم وكل كلمة طيبة لها تأثير أعمق مما ندركه.


حتى اليوم، وأنا أسترجع ذكرياتنا، أشعر بالامتنان لها، ليس فقط لأنها ساندتني في دراستي العليا، بل لأنها كانت مرآة القدر الحقيقية، انعكاسًا لما يمكن أن تكون عليه الروح عندما تلتقي بالإرادة والإيمان والحب الصادق. كانت تعلم أن الحياة قصيرة، وأن كل لحظة فيها قيمة، ولذلك كانت تمنح من حولها القوة دون أن تنتظر مقابلًا.


هي ابنة القدر، حقًا، لا يمكن وصفها بكلمات عادية، لأنها أكثر من مجرد شخص، أكثر من مجرد طفلة أو صديقة؛ إنها روح تسير معنا، تزرع فينا الإيمان بقدرتنا على النجاح، تعلمنا أن الظروف مهما كانت صعبة، يمكننا تجاوزها بصبرنا وبمساندة من يستحق أن يكون جزءًا من حياتنا. هي الأثر الذي يبقى، حتى وإن ابتعدت المسافات، حتى وإن تبدلت الظروف. حضورها في حياتي كان رسالة مكتوبة بخط القدر نفسه، رسالة تقول: “ستصل، لا تقلق، فأنت لست وحدك”.


وهكذا، تبقى ابنة القدر حية في كل خطوة أخطوها، في كل إنجاز أحققه، في كل تحدٍ أواجهه. تذكرني دائمًا بأن الدعم الحقيقي لا يقاس بالكلمات أو السن، بل بالروح، بالقلب، وبالنية الصافية التي تجعلنا نورًا لمن حولنا، حتى عندما تكون أصغر من أن يفهم العالم حجم تأثيرها.



د.صباح الجهني 

تعليقات

  1. أحبببك ياحلى أم بالدنيا 🥺

    ردحذف
  2. كالنور بنهايه كل نفق وجودها مطمئن دائماً🤍.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة