رشيف الروح
هناك أوجاع لا تصلح للبوح… ندفنها في مكان لا أحـــد يبلغـه غيــر الله.
ليس لأننا نخاف من الحقيقة، بل لأن هناك حقائق إذا خرجت فقدت قدسيتها، وإذا نطقتها الشفاه تلوثت باجتهادات البشر وتفسيراتهم،وتخميناتهم، ومقاييسهم القاصرة.
هناك أوجاع تُولد من طبقات عميقة جدًا من التجربة…
لا تهدأ بالغناء، ولا بالعناق، ولا بالكلام… بل تهدأ فقط حين تسلّمها الروح إلى الله وتسكنها في حضرته، بلا ترجمة، بلا وسيط، بلا شرح.
الألم أحيانًا لا يُعاش في لحظة واحدة، لكنه يتوزع على العمر كله، يتسرب في طبقات الوعي يكتب في داخلنا حروفًا غير مرئية، ويعيد تشكيل الخريطة السرية للذات.
نحن لا نفقد أنفسنا في الوجع… بل نكتشف صورتنا الحقيقية خلفه.
الوجع ليس خصمًا… الوجع مرآة.
يكشف ما لا نراه ونحن في الضوء
نحن نغرق أولاً، كي نتعلم السباحة لاحقًا.
ننكسر أولاً، كي نفهم معنى الترميم لاحقًا.
ثم يومًا في منتصف الطريق، ومن حيث لا ندري…
نستيقظ وقد أصبحنا مختلفين تمامًا دون أن نتذكر اللحظة التي تغيّرنا فيها.
الله وحده يعرف كيف نتهذّب عبر الألم.
كل تجربة تُحزّ في أعماقنا تشبه جناحًا تشكل من العتمة، كي نستطيع يومًا الطيران من فوق ما كنّا نحسبه نهاية.
فالجرح ليس عجزًا، بل عتبة.
والألم ليس كسرًا، بل بابًا.
والنقص ليس سقوطًا… بل بداية الصعود الحقيقي نحو الذات.
هناك لحظات يصبح فيها الصمت أعلى من كل خطاب
يصبح الحضور الداخلي أقوى من كل حضور خارجي
يصبح الإنسان ناضجًا بما يكفي ليعرف أن الجواب الحقيقي ليس عند الناس، بل عند الله الذي يعلم السر وأخفى
نعم… هناك أوجاع لا تصلح للبوح
لكنها ليست عبئًا… إنها أرشيف الروح، وخريطة مسيرتنا في الظلمة حتى وجدنا الضوء، وشهادة أننا عبرنا الجدار دون أن نصرخ
وهذه الأوجاع التي لا نكشفها لأحد
هي نفسها التي تصنع الحكمة
وتنضج البصيرة
وتعلّم القلب أن يكون أوسع من الألم
وأعمق من الغياب
وأقوى من أن يُهزم من تجربة واحدة
نحن في النهاية… نتعلّم أن نولد من جديد
لا كما كنا، بل كما نصير
وفي يوم ما، حين تنضج أرواحنا بما يكفي
نتأكد أن الله لم يكن يخفي عنا الجواب…
كان يُعدّنا لنستقبله.
د.صباح الجهني



تعليقات
إرسال تعليق