أبناء العالم… لا أبناء الجسد
أبناء العالم… لا أبناء الجسد
«أولادكم ليسوا لكم. أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها. بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكًا لكم.»
ـ جبران خليل جبران، ـ. 1923م.
أبناؤنا أبناء الحياة؛ نرافقهم في البداية، ثم تسرقهم الطرق التي خُلقت لهم.
كبروا من تفاصيلنا الصغيرة، من أصواتنا، من أوامرنا التي كنّا نظنها حكيمة، ومن نصائحنا التي كنّا نعتقد أننا نحمي بها مستقبلهم… بينما كان القدر يُحضّر لهم مستقبلًا لا يشبه تصوراتنا أبدًا.
نحنُ نتخيّل أننا نحميهم من العالم، لكن الحقيقة أن العالم هو الذي يُدرّبهم علينا… وعلى فِراقنا.
منذ اللحظة الأولى التي يفتحون فيها أعينهم، يبدأ الانفصال بالتدرج؛ خطوة صغيرة لا يُلاحظها أحد في البداية، ثم خطوة أخرى، ثم فجوة تتسع، وطرقات تتفرّع، وتاريخ جديد يُكتب بعيدًا عنّا.
نحن نزرع في قلوبهم الأمن… وهم يذهبون ليختبروا الخطر.
نحن نُمسك بيديهم كي لا يسقطوا… وهم يسقطون ليعرفوا أنهم قادرون على الوقوف وحدهم.
نحن ننتظر أن يعودوا إلينا في كل انهيار… لكن الحقيقة أنهم يعودون فقط كي يستعيدوا صمت الطفولة في صدورنا، ثم يمضون مرة أخرى لأن دورنا انتهى في تلك المحطة… ولم ينته في الحياة.
أبناؤنا أبناء الحياة… يأتون عبرنا لا لنا.
لسنا أصحاب قراراتهم الأخيرة، ولا أصحاب وجوههم حين يواجهون اختباراتهم الحقيقية.
نُهيّئهم للحكمة، بينما تُهيّئهم الحياة لليقين المؤلم، وتُعلّمهم أن لا أحد يبقى كاملًا لأحد.
وفي لحظة ما ندرك أن الحياة لم تكن تأخذهم منّا، بل كانت تعيدهم إلى أنفسهم.
وبين كل غياب وغياب… نتعلم نحن درسًا آخر:
أن الأدوار تتقلص، واليد التي أمسكت كثيرًا تتعب، والحضن الذي اتسع يومًا… سيصبح فقط ذكرى أول بيت آمن عرفوه.
ثم يأتي يوم لا طرق فيه مشتركة، ولا قرارات تُستشار.
يصبحون مسافرين في دروب لا نعرفها.
نراهم في صور، في رسائل مقتضبة، في سهرات عابرة، في أخبار تصلنا من بعيد… وكل مرة نصمت لأننا ندرك أن الحياة أخذتهم حيث يجب أن يذهبوا.
وفي آخر الطريق… نصل نحن إلى قناعة لم نكن جاهزين لها:
أن التربية ليست أن نصنع أبناء يشبهوننا، بل أن نصنع أبناء يملكون القدرة على أن يعيشوا بعدنا… دون أن ينهاروا.
ما أجمل أن ندرك ذلك دون حسرة.
وما أصدق أن نقول لأنفسنا ونحن نغلق الباب عليهم في كل سفر: لقد أدّينا رسالتنا.
لكن أقسى اللحظات ليست لحظة السفر ولا لحظة البعد الجسدي…
أقسى اللحظات هي حين يبدأون باتخاذ قراراتهم من خارج رؤيتنا، وحين يختارون دروبًا لم نُردها لهم، وحين يقولون “لا” لأول مرة.
لحظة العصيان الأولى ليست تمردًا عليهم بقدر ما هي إعلان خفي بأن سلطتنا انتهت.
ليست قسوة منهم، بل بداية معرفة لأنفسهم، بداية لغة مستقلة، بداية إدراك أنهم ليسوا امتدادًا لظلنا، بل كيان قائم بذاته.
ونحن نقف هناك… بين الخوف عليهم، والدهشة منهم، والاعتراف بأننا لم نعد نملك الحق الكامل في منعهم من التجربة.
كل “رفض” منهم هو ميلاد نسخة جديدة منهم، وولادة صغير في داخلنا.
كل “قرار مختلف” يتخذونه… يكبرون هم فيه ألف خطوة، وتكبر نحن ألف حكمة.
وفي تلك اللحظات يبدأ التحول الحقيقي فينا نحن.
نتوقف عن فرض الطريق… ونبدأ بالإنصات.
نتوقف عن رسم مستقبل نيابة عنهم… ونبدأ بفهم أن المستقبل ليس خارطة تصنعها الأم، بل أرض يكتشفها الابن.
نصبح أقل صرامة… وأكثر قدرة على التسليم.
فنقول في داخلنا بهدوء يقبل كل شيء:
كبروا… وكبرتُ أنا معهم.
أبناؤنا أبناء الحياة… ونحن أبناء التسليم.
د. صباح الجهنيً



تعليقات
إرسال تعليق