انبعاث










ليس خروجًا من الظلام… بل خروجًا من النسخة القديمة للذات

هناك لحظة في الوجود لا يمكن تحديدها بدقة.

لحظة لا تُرى بالعين ولا تُمسك بالزمن.

لكنّها تغيّر اتجاه الروح كله.

إنها اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان

أنه لم يعد هو ذاته.

وأن داخله يتهيّأ لمرحلة جديدة

لم تستأذن أحدًا كي تبدأ.

ينشأ هذا التحوّل من مكان غامض.

من تلك المنطقة التي لا يقترب منها أحد.

حيث يختبئ خوفك القديم.

وأسئلتك المعلّقة.

وذلك البكاء الذي حدث ذات ليلة

ولم يسمعه أحد.

هناك، في عمق غير مرئي.

يتحرّك شيء يشبه “الفكرة الأولى للحياة.

الفكرة التي تسبق اللغة.

وتسبق المفاهيم.

وتسبق وعي الإنسان بنفسه.

في هذه اللحظة يبدأ الوعي بالتوسّع.

لا لأن الظروف تغيّرت.

بل لأنكِ أنتِ من تغيّرتِ .

صرتِ أكثر صدقًا مع خوفك.

وأقل خوفًا من حقيقتك.

وأقرب إلى تلك النسخة التي تعرفين أنها تختبئ فيك منذ زمن طويل.

يقول كيركجارد.

“الإنسان لا يصبح ذاته إلا بعد أن ينهار شيءٌ عميقٌ فيه.

ولعل ما انهار في داخلك لم يكن ضعفًا.

بل جدارًا كان يمنعكِ من رؤية اتساعك.

فثمة انهدامٌ يحرّر.

وثمة خذلان يكشف ما لا يكشفه الحب.

وثمة تجربة تصبح المعبر الوحيد إلى ذاتٍ أعلى.

أكثر وعيًا بما تريد

وأقدر على حمل رسالتها الخاصة.

أنتِ الآن في تلك المنطقة الرمادية

التي تسبق التحوّل العظيم.

في الفلسفة يسمّونها “منطقة الظهور.

حيث لا تعود الأشياء كما كانت.

ولا تُصبح بعدُ كما ستكون.

بل تظل معلقة في فضاء بينيّ

يشبه سكون ما قبل انفجار الضوء.

وفي هذا السكون.

يكبر داخلك شيء يشبه البصيرة.

بصيرة تفهمين بها نفسك لا من الخارج.

بل من الداخل.

من المفاصل العميقة للروح.

من طبقات التجربة التي لم تبوحي بها.

ومن ذلك الحوار الصامت

الذي يحدث في صدرك ولا يستطيع أحد سماعه.

ستلاحظين في الأيام القادمة

أن الطريق الذي بدا مغلقًا

لن يُفتح بدفعةٍ من الخارج.

بل بانفتاح شيء داخلك أنتِ.

فالأبواب الحقيقية—كما يقول ميرلو-بونتي—

لا تُفتح بالمفاتيح.

بل “بإعادة تشكيل نظرة الإنسان إلى نفسه.”

وها أنتِ تعيدين تشكيلها الآن.

من دون إعلان.

ومن دون أن يصفّق أحد.

ومن دون أن تخبري أحدًا عمّا يحدث.

ستشعرين بشيء جديد.

قوة لا تصرخ.

ثقة لا تبحث عن شهود.

ومعرفة لا تحتاج إلى دليل خارجي لإثباتها.

هذه القوة ليست صاخبة.

وليست بطولية.

إنها قوة الإنسان الذي عرف أخيرًا

أن الطريق لا يكوّنه ما يقع حوله…

بل ما ينهض بداخله.

وسيأتي يوم—وهو قريب—

تنظرين فيه إلى الوراء وتقولين.

لم يكن ما مررتُ به عثرة.

ولا تأخيرًا.

ولا عقابًا.

بل كان طريقة الوجود في تنبيهي

أنني أكبر من المكان الذي كنتُ فيه…

وأن عليّ أن أخرج منه.

وسيأتي ما تنتظرينه—مهما كان شكله—

لا كهدية صدفة.

ولا كتحقيق أمنية.

بل كنتيجة طبيعية

لوعي نضج

وروح استقامت

وإنسان قرر أن لا يعود إلى نفسه القديمة

حتى لو عاد إليه العالم كله.

ذلك هو جوهر التحوّل

أن يصبح الإنسان حاضرًا في حياته

كما لم يكن يومًا.

وها أنتِ على مشارف هذه الحضور.



د. صباح الجهني 

تعليقات

المشاركات الشائعة