الظلّ خلف الضوء




ليس كلُّ ضوءٍ يولَد من فجرٍ رقيقٍ مطمئن.

فهناك أنوارٌ وُلدت من رحم الإنهاك.

من ليالٍ أكلها التفكير.

ومن قلبٍ ظنّ أن الطريق انتهى. 

ثم اكتشف أنه للتكوين لا للتيه.

نحن لا نخرج من العتمة فجأة.

بل نتعلّم السير فيها .

نتلمّس الحيطان بأصابع القلب .

نرتبك، نسقط .

ثم نكتشف أن العتمة لم تكن لتُطفئنا .

بل لتعلّمنا لغة الضوء حين يأتي.

الظلّ الذي كنا نكرهه…

كان المعلّم الأول للتماسك.

فيه تدرّبنا على الصبر.

وتعلّمنا أن الألم ليس عدوًّا.

بل صديقٌ صادقٌ يخبرنا أن فينا شيئًا حيًّا ما زال يقاوم.

كل تعبٍ كان بذرة.

وكل تأخّرٍ كان توقيتًا رحيمًا.

وكل ما ظننّاه انكسارًا.

كان في الحقيقة انحناءةَ حكمةٍ أمام امتحان الحياة.

حين يجيء الضوء بعد كل ذلك.

لا يبهرك بسطوعه.

بل يدهشك بلطفه.

لأنه يأتي بلا صخب، بلا جمهور، بلا تصفيق.

يأتي كطمأنينةٍ داخلك.

كهمسٍ يقول: لقد وصلتِ، فاهدئي.

الضوء الحقيقي لا يُنكر الظلّ.

بل يحتضنه.

لأنه يعرف أنه لولاه ما كان ليولد.

فالعتمة هي التي تصنع ملامح النور وتمنحه معناه.

الذين خرجوا من الظلام لا يعودون كما كانوا.

تتبدّل فيهم الأشياء بلا إعلانٍ ولا ضجيج.

كأنهم أجرَوا اتفاقًا سرّيًا مع الحياة.

أن يعيشوا بهدوءٍ بعد أن أنهكهم الصراع.

وجوههم تصفو، لا لأن الدنيا صارت أرحم.

بل لأنهم تعلّموا كيف لا يحملونها فوق ملامحهم.

تراهم يبتسمون دون مناسبة.

ابتسامة صغيرة كوميضِ نجمٍ يعرف متى يختفي ومتى يُطلّ.

ذلك لأنهم أدركوا أن الفرح ليس حدثًا خارجيًا.

بل حالةُ رضا تنبت في القلب.

حين يتصالح الإنسان مع قدره.

قلوبهم أعمق.

لأنهم ذاقوا الغياب بكل أنواعه.

غياب الناس، وغياب الطمأنينة، وغياب الإجابات.

فصاروا يعرفون قيمة الحضور حين يأتي.

ويعرفون أن السكينة لا تُشترى.

بل تُزرع في لحظة انكسارٍ صادقٍ مع الله.

لقد علّمهم الظلام أن النور لا يأتي من الخارج.

بل من شعلةٍ صغيرةٍ أشعلها الإيمان في داخلهم.

تلك الشعلة هي التي أبقتهم واقفين.

حين ظنّ الجميع أنهم سيسقطون.

ولذلك حين يعودون إلى الضوء، لا يتفاخرون.

ولا يروون قصصهم بفخر المنتصر.

بل بهدوءِ العارفين الذين لمسوا يد الله في الخفاء.

يعلمون أن اللطف الإلهي لا يُرى بالعين.

بل يُحَسّ في المرات التي ننجو فيها.

من دون أن نفهم كيف.

أولئك لا يعودون كما كانوا.

لأنهم لم يعودوا يبحثون عن الإجابات في الخارج.

بل وجدوا الله في أعماقهم.

حين قال لهم القدر: «امشوا وحدكم»…

فاكتشفوا أن وحدتهم لم تكن إلا ممرًّا إليه.



﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾


✦ د. صبــاح الجهــنـي  ✦

تعليقات

  1. اعتقد مافيه اكثر من هذا الكلام جمال 🥺

    ردحذف
  2. 🌹🌹🌹🌹🌹

    ردحذف
  3. بعد كل تعب بيكون فيه راحه،ان مع العسر يُسر

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة