الأربعاء، 28 مايو 2025

من فجوة الصمت إلى رنين الهاتف


 

سيئٌ جدًا أن نعتقد بشيء،والأسوأ أن يحدث خلاف ما اعتقدناه.

ذلك الارتطام المزعج،الذي يحدث انفجارًا غير مسبوق..يشبه القنابل العنقودية، يجعلك أقوى وأنتِ تقاومين تلك الحرب،مستخدمة أخف أنواع الأسلحة،فقط كي لا تغرقي الجميع.

فأنتِ واحدة من ركاب هذه السفينة..لكن حماقة البعض تشل تفكيرك،فلا تعلمين، ولا تعرفين ماذا تفعلين.

ربما كلماتنا الصريحة أحيانًا،هي ما يجعل لنا مكانًا مختلفًا عن ذاك الذي كنا نرسمه في خيالنا.

قد يتعرض الناس،باسم الصداقة،لتطفلٍ غير مرغوب فيه..ويظل السؤال: لماذا؟!

هناك أشياء كثيرة لا يمكن أن تكون أساسًا للحب،حتى تلك الدعوات التي تتلفع برداء "المحبة ".

المؤلم في الأمر،أن الكثير يفضحهم بريق عيونهم ونبرات أصواتهم

رن هاتفي..نظرت إليه،فإذا بها هنادي.

كنت أنتظر هذا الاتصال..كنت مرهقة وأحتاج للخروج،للحديث معها.هي الوحيدة التي تفهم ما أقول.لا أعلم لماذا؟!

رغم أن معرفتي بها لا تتعدى الشهرين،إلا أنها أكثر إنسانة انسجمت معها.

رفعت سماعة الهاتف بسرعة:

مساء الخير!

كنت أرغب بالاتصال بك،لكنكِ سبقتني.

ضحكت.. القلوب تشعر بمن تحب.

نعم،صدقت.

قالت: "ما رأيك نخرج ونتناول فنجان قهوة"؟

نزلت مسرعة،أجمع أغراضي حتى لا أتأخر.

في مكان مزدحم،والفوضى متناثرة حولنا،ثمة أمور لا يمكن الحديث عنها.مثل شظايا الحرب،تغرز في الجسد وتبقى حتى الموت.

هكذا هي صديقتي الجديدة..تتحدث عن الحب والخذلان وكأنهما صفة اتصفت بهما.

كان حديثنا غالبًا يدور حول محطات الحياة.العقبات،الصعاب،كانت القاسم المشترك بيننا،وليس فقط حب الحياة.صحيح أن نظرتها تقليدية أحيانًا،لكنها جميلة. فيها تقبل للآخر،بلا تعصب،وتترك لك مساحة..لا تتعداها ولا تتدخل فيها.

رغم اختلاف المكان،كانت كثير من الأحداث بيننا متشابهة.

ولم تخل تعليقاتنا من الابتسامة.لا أعلم،أهو الرضا؟ أم الصدمة من هذه الحياة التي وضعتنا في حيرة؟!

نصمت أحيانًا ونحن نرتشف القهوة،تتقاطع نظراتنا،فيكون حديث العيون أقوى من الكلمات.

تلك الترجمة الصامتة كانت تتقنها جيدًا.

الشيء الذي لم أفهمه:استمرارها في علاقات لا توافق فيها..لا فكريًا،ولا اجتماعيًا، ولا ثقافيًا!

لم أستطع معرفة الأسباب التي تدفع عقلًا واعيًا مثلها للاختلاط مع هؤلاء،هل من الممكن أن يكون الخوف من المستقبل هو ما يجعلنا ضعفاء؟

ذلك الصراخ اليومي لكلماتنا،الذي بات متنفسنا الوحيد،ربما هو ما جعلها تنقاد للجلوس معهم.

لكن..كثير من الانتقادات،تترافق مع ابتسامات مريرة،لا نعرف لمن،ولا لماذا.

ربما هي محاولة لإقناع الذات بما يرفضه العقل.

شيء ما يطفو في رأسها.. إلا أن الصدفة،وحدها،تعلمنا من هؤلاء،وعن أي شيء يتحدثون.

غباء الآخرين يجعلنا نبدو أغبياء في أعينهم.

العفن المسيطر على قلوبهم يجعلهم يرون الحياة من ثقوب صغيرة،على حوافها قاذورات،لا ترى بوضوح.

حتى نظراتهم تدعو للاشمئزاز،بل إن رائحة عقولهم تغلب على رائحة أجسادهم.

وفي كل مرة نلتقي فيها،نشعر ببساطة الأمور.. وإن كانت عكس ذلك.

الدموع

العتاب

نرفض الحديث عنها،لكننا نشعر بأنها الحقيقة.

وقلب الإنسان دليله.

يوم الجمعة.. ذلك اليوم المقدس،عندما يأتي يغير كل شيء،حتى بداية الأسبوع.

تشعرين أن الحياة فيه مختلفة تمامًا،وكأنكِ عدتِ إلى أيام الجاهلية.

رغم أن العرب كانت تعتبر السبت بداية الأسبوع،إلا أن الجمعة أصبحت في ذهني، رمزًا لحالة غريبة.

حتى صفة العربدة " بكل ما تحمل من سوء " لا تليق إلا بأولئك المخادعين والمرتزقة.

يخيل لي أنهم اجتمعوا هنا،في هذا اليوم..لا أعلم لماذا،لكن هذا ما أشعر به.

أتوقف هنا....

د. صباح الجهني

مرحلة التفكك الأخيرة

 

 

في تلك المرحلة الأخيرة،حين تتشابك الأحلام والكوابيس في سلة مثقوبة، تسقطها الأقدار على قارعة الطريق،تبقى الكوابيس معلقة،تشبثها بي كما لو كانت جزءًا مني.

لا أعلم أي حظٍ يرافقني،متى يأتيني، ومتى يرحل.

كانت أفكاري كلها عن من أكون وكيف أكون،أدركت أن الأيام لا تختلف،بل نحن من نصنع الاختلاف بأفكارنا،بمرور أيامنا،وحتى بسنوات عمرنا.

هي مرحلة تفكك في زمنٍ لا نعلم متى يعود فيه الوصل.

تتدفق الأحداث نحو نقطة صمتٍ لا نسمع فيها إلا انتظار الانفجار. في صباح شتوي ماطر،كنت مشغولة بالدراسة،أحاول أن أرتب وقتي حتى أخرج عند منتصف النهار،دون ثقل التوتر الناتج عن كثرة القراءة والعمل.

كانت خطتي واضحة:الدراسة ثم الخروج.لكن ليست كل الخطط تصدق النهاية التي نريدها.

كان من ضمن خططي إعادة هيكلة الوقت بما يتناسب مع وطني،الرياض ذلك الوطن الذي لا يعرفه أحد غيري.هو وحده من يسمع ضجيج أفكاري وهواجس أحلامي.

حتى وإن اختلفت عطلتي الأسبوعية،لم أنسَ ذلك التوقيت،ولا أفهم سبب استيقاظي مبكرًا لأنتظر رنين الهاتف.

وفي لحظة صمت،جاء صوته عبر الهاتف..كأنفاس صباح دافئة تعانق روحي.

قلت له بهدوء:

هل تعرف كم أحب تلك اللحظة التي أنتظر فيها رنين هاتفك؟ كأن العالم كله يصمت،ويبقى صوتك وحده يتسلل إلى روحي.

رد بابتسامة مسموعة:

وأنا؟ أعد الثواني حتى أسمع صوتك،حتى أرى ضحكتك،حتى أشعر بأن كل ما حولي لا يهم إلا أنكِ هناك.

ابتسمت..وقلت:

أحيانًا أشعر أن حبنا هو ذاك الدفء الذي لا يذوب،مهما عصفت الرياح، مهما هطلت الأمطار.

فأجابني:

حبنا هو الملجأ..الوطن الحقيقي الذي نلجأ إليه،حتى لو تاهت بنا الطرق،سيبقى القلب متصلًا.

أغمضت عيني للحظة..وهمست:

لا أريد أكثر من أن نكون معًا..أن تبقى الحياة معنا رغم كل شيء.

أمسك بسمعي قائلاً:

معك كل لحظة تصبح قصيدة،وكل انتظار يصبح قصتنا الأجمل.

ذلك الرنين، ذلك الصوت، كان أكثر من مجرد مكالمة. كان وعدًا بالحب والدفء، كان اللحظة التي تجعل من كل انتظار معنى ومن كل شوق حياة.

أحببت تلك اللحظة،حين يتحول الزمن إلى أنشودة حب خاصة بنا،لا تسمعها إلا قلوبنا.

أحببت ذلك الشعور من الوله،حين يتراقص قلبي على نغمة اسمه،ويصبح كل نبضة وعدًا باللقاء.

أحببت ذلك الحب الذي جاءني من رجلٍ تنام روحه في روحي،ويتنفس بقلبي، كما لو كنا نسير على خيطٍ رفيع،بين الحقيقة والحلم،حيث تلتقي أرواحنا وتذوب المسافات.

أحببت صمت المساء حين ينقلب إلى همس،وأنا أسمع صدى اسمه في كل زاوية من وجودي.

أحببت الوقت وإن اختلف،لأنه يحملنا معًا في رحلة لا تنتهي.

أحببت الحياة بكل أشكالها..هنا معك.

د. صباح الجهني


صراع مع الحياة


 

تقحمنا الحياة بهم رغم عنادنا، وكأنها تذكرنا بما قاله سارتر:

"الإنسان محكوم عليه بالحرية"

نجبر على الاختيار، وعلى تحمل تبعات وجودنا، حتى وإن لم نرَ طريقنا واضحًا أو لم نختَر من البداية من يشاركونا هذه الرحلة.

تنتهي الصراعات أحيانًا بكلمة واحدة، لكن السؤال الذي يليه هو ما يخلق الهاوية التي نسقط فيها أنفسنا لنكتشف أننا وحدنا.

أسئلة كثيرة لم أبحر في البحث عن أجوبتها، لأنني أدركت أن الجواب لا يكمن في كلمات الآخرين، بل في مواجهتي الصامتة مع نفسي، حيث الحرية والعبء يصنعان وجودي.

بدأ ضوء الشمس يتلاشى شيئًا فشيئًا..والليل يسدل ستاره الذي لا يرحم، ذاك الظلام الذي لم يكن موحدًا كما ظننته، بل يحمل أوجهًا متعددة مثلما هو الوجود نفسه، متعدد الأبعاد والمفارقات.

كانت تقود السيارة..عارفة وجهتنا..قالت:

"مقهى في نهاية الشارع، سيعجبك"

المقهى،ذاك المكان الذي حاولنا أن نجعل منه ملجأً مؤقتًا من قسوة العالم، كأننا نحاول أن نخلق معنى وسط اللا معنى.

جلسنا في الخارج، الجو لطيف.. طلبت قهوتها،ونظرت إلي: "وماذا عنك "؟

قلت: لا يوجد غيرك يا جميلة..ضحكت، وقالت: "نعم، قهوة".

خرجنا كثيرًا لنفرغ همومنا،لكنها هذه المرة كانت أكثر من مجرد تفريغ، كانت مواجهة صريحة مع عبء الوجود.

رأيت الحديث في عينيها،لكنني ترددت، كما لو أنني أخشى أن أكشف عن ضعفي في مواجهة الفراغ الذي يحيط بنا.

لم أكن ممن يحولون كل كلمة إلى قضية العصر،ولم أهتم بحقد أولئك الذين يعيشون في ظلال الكراهية،فهم (كما قال سارتر ):

"يهربون من حرية الاختيار بإلقاء اللوم على الآخرين، أما أنا فقد فهمت أن وجودي مسؤوليتي وحدي، وأنني أنا من يصنع معاييري، ويخلق معاني حياتي"

ومن هنا، في عتمة الليل المتشابك بين الضوء والظلام، ولدت معاييري الجديدة للوجود، معايير تعترف بحرية الاختيار، وتقبل العبء الوجودي، وتؤمن بأننا نخلق معنى حياتنا رغم اللامعنى الذي يحيط بنا.

كما قال سارتر:

"الإنسان محكوم عليه بأن يكون حراً، ففي كل لحظة، عليه أن يختار نفسه، وأن يتحمل نتائج اختياره. لا ملجأ من حرية الوجود، إلا أن نواجهها بكل مسؤولية"

د. صباح الجهني

اعترافات جبانة


 

"الاعتراف هو الخطوة الأولى نحو التحرر من أسر النفس"(سيجموند فرويد)

أقدم اعتذاري إليك، أيها الرجل..لا أستطيع الاعتراف، فأنا جبانة،لكنني سأستغفر الله في كل ليلة على تلك اللحظات التي هربت منك فيها إلى غيرك..برغم أنك تحتضنني في كل ليلة بين يديك،وترقب عيوني كل ساعة،وحتى لو لم تقل لي "أحبك" تلك الكلمات التي يتقن استخدامها الكذابون المنافقون،أولئك الذين تعودوا على السخرية من مشاعر الآخرين،يرمونها متى انتهت حاجتهم إليها،هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من البشر.

لا شيء عندهم دون مقابل.. هكذا هم.

­    كم هو سعرك؟

­    ما هو المبلغ؟

­    كم تحتاج؟

كل هذه العبارات هي التي تحدد ماذا تعني لهم،ماذا تساوي في نظرهم.

وكأنهم اعتادوا على التفاوض على ما لدى الغير،وحتى وإن لم يعرضوا بضاعتهم للبيع أو للتفاوض.

هؤلاء الأوغاد يعيشون غالبًا في الظلام،لا يستطيعون الظهور بهذا الوجه القبيح للآخرين.

تذكرت ذلك الرجل العجوز،الذي كان يسبقني بخطوة ويتراجع بخطوات أمامي،كنا نسير معًا في أحد المولات،وكان موعدي مع إحدى الصديقات لتناول القهوة.

دفعتني فضولي لمراقبة ذلك العجوز الأنيق،ببزة متناسقة الألوان،وحذاء جلد باهظ،وساعة لمعتها تخطف الأنظار.

أنا في الحقيقة لا أهتم بنوع أو اسم الماركات،لكن بريقها كان مميزًا، وأظن أنها كذلك.

الغريب أن ذلك المول متواضع جدًا،في منطقة شعبية يرددها عامة الناس من أصحاب الدخل المتوسط، بل الأقل من المتوسط.

أخذ ينعطف تجاه اليسار،وكان كأنه يقصد المكان الذي أريد،هنا توقف فجأة،وأدخل يده في جيبه،وأخرج مرآة،ونظر إلى نفسه وابتسم.

ابتسمت أنا أيضًا،ولا أعلم لماذا،ربما هي الحياة عندما تتداعب بنا بوجوه الآخرين

صديقته الصغيرة كانت تمسك بيده،طفلة صغيرة بعيون واسعة، تحمل براءة العالم،تلفتت نحوي بحذر،ثم نظرت إلى الرجل العجوز بابتسامة خجولة.

كانت تسأل بصوتها الرقيق:

"هل أنت سعيد"؟

توقف قليلاً، ثم نظر إليها بعينيه العميقتين،ثم أجاب بصوت هادئ ملؤه الحكمة:

"السعادة ليست في المال، ولا في المظاهر،السعادة في السلام مع النفس،وفي القدرة على النظر إلى المرآة والابتسام،حتى وإن كانت الحياة تأخذ منا الكثير"

في تلك اللحظة، شعرت بأن هذا الرجل العجوز يحمل بين طيات ابتسامته سرًا عميقًا.

سرًا عن الحياة، عن الإنسان، عن الحبوأدركت أنني، رغم جبني،ربما لم أهرب منك، بل كنت أبحث عن سعادتي،وأن السعادة، ربما، لا تكمن في الكلمات التي لا تقال،ولا في الوعود التي تنكسر،بل في ذلك الحضور الصامت الذي يحتضنني كل ليلة،وفي ابتسامة رغم الألم ..وفي نهاية الطريق،تغلق الكلمات أبوابها أمام صمت القلب،فتزهر أنامل الوفاء في هدوء النظر،وتنمو في الأعماق زهور الوجد بلا صراخ.

أنتَ يا من تسكن بين يديَ،وفي نسيج الصمت الذي يحيطني،كنتَ نبضًا لا يرى،همسًا لا يسمع،وأمانًا لا يقاس.

وهذا الحب، رغم جبني،ورغم هروبي المتكرر،يبقى قصيدة تكتب في ليالي السهر،تستغفر الله على ضعفها،وتشكر قلبًا ظل صامدًا،لا يهرب.

د.صباح الجهني

ما تبقّى منّا في الآخرين

 


الصداقة كالحياة، لا يمكن أن تُختزل في قوانين، ولا تُقاس بمقاييس البشر.

هي كالنهر، تمضي بلا وعدٍ بالبقاء،لكنها تترك أثرها في التربة، مهما تغيّرت الفصول.

نعيشها بين ومضات الفرح ونوبات الحزن،كأنها تجربة وجودية نمرّ بها، لا لنفهمها، بل لنشعر بها.

أحيانًا..نضحك حتى تدمع أرواحنا،وأحيانًا نبكي حتى نتساءل:

"هل بلغ بنا الشعور حدّ الجنون"؟

الصمت.. الدموع المنفجرة.. ليست مجرد ردود فعل، بل لغة أخرى للروح،لغة تعجز الحياة بكل تفاهتها أن تحاصرها في موقفٍ واحد.

في لحظة واحدة،تنعكس علينا مرآة مختلفة .. لا لتريك الواقع بل لتكشف ذاتك كما لم ترها من قبل.

نعم، يمكن هدم كل الصور.. إلا تلك التي يُمسك الزمن بخيوطها،فهي وحدها الباقية،شاهدة لا على ما عشناه فقط،بل على ما كنا نظنه مجرد عبور.

ثم يأتي الإحساس بالقيمة،وتعصف بك الحيرة،وتشتد حولك القيود،فتنسحب،يختلّ توازنك،ويبدو الظلم كأنه يدفعك للتخلص من كل ما يحاول ربطك.

ومع ذلك،يبقى هناك نوع نادر من التواصل .. تواصل روحي لا يصنعه النَسَب، ولا يقيده العرق أو الدم،بل تنسجه خيوط من الاحترام والشفافية،وتحفظه روح الصدق بين الأصدقاء.

"يظن الناس أن ما يهم في الحياة هو الحب. لكن الحقيقة أن ما يهم هو أن يكون لديك ما تعيش من أجله"..( أنطون تشيخوف )

د. صباح الجهني


الثلاثاء، 27 مايو 2025

متى نتعلـم ؟ متى نتحرر ؟

   


" أنا لست ما حدث لي.. بل ما اخترت أن أكونه "

                            فرجينيا وولف

ثمة لحظة داخلية لا تعلَن، لكنها تشطر الإنسان نصفين. لحظة نضج لا تأتي من القراءة أو التراكم، بل من الشرخ، من الشك، من ارتطام القلب بما لا يحتمَل.

في وجه الألم، تنقلب موازين الفهم.

حين نعتبر الألم والكسرة لحظة تأمل لا تهشيم، يتغير شيءٌ فينا.

نصبح نرى العالم بعين ثالثة، لا هي عين العقل المجرد، ولا عين القلب العاطفي، بل عينٌ تجمع بينهما وتنظر من الداخل.

حتى فتات أفكارنا المسكوبة تصبح قابلة للفرز، للحكمة، للخلق.

هكذا نتعلم.

نتعلم عندما نصيغ أخلاقًا جديدة تتلاءم مع “العدل الرحيمي” عدلٌ لا ينتقم، بل يربت على الكسر ويرممه بلطف.

عندما يصبح السلام مع فئات الناس خطابًا داخليًا لا مرهَفًا، يرفض إبطال دهشته، ويدرك أثر الحنان في العائلة، وعمق الجدوى في العلاقات.

الفتاة التي تسكنني – أو أنا التي تسكنها – تعيش بين مفارقة الحرية والقيود.

مفعمة بالتحرر، ومختنقة بكبرياء الألم.

تقاوم..لكنها لا تكسر.

تختنق..لكنها لا تبوح.

تلتزم الأخلاق لا حبًا في القيود، بل لأنها لا تزال تجرب أن تكون هي… رغم كل شيء.

هذه الفتاة لا تملك رفاهية الانبهار..لأن صدماتها كانت دومًا "مسبقة مهذبة"توقعتها فخف أثرها،لكنها تركت أثرًا داخليًا شاسعًا، لا يمحى.

ومع كل لقاء جديد، لا تكتنز كثيرًا من الذكريات.

تسجل في داخلها حالة عابرة من الانتباه، ثم تمضي.

ذلك أن الذاكرة لم تعد مأوىً آمنا، بل مكانًا متوترًا مشحونًا بالافتراضات والتجارب المؤجلة.

الفرق الحقيقي، يكمن في هذا السؤال:

هل تسامي قلبك الوجود؟

إن لم تفعل، ستظل تتعلم متأخرًا، وتستمر في استنشاق الضمور من الحزن، وكأن الحزن أصبح لك عادة.

التحرر لا يبدأ من كسر القيود، بل من كسر عادة الصمت تجاه النفس.

حين نصغي لأنفسنا في صدق، سنتعلم… ونتحرر

د. صباح الجهني

الاثنين، 26 مايو 2025

حضرة الصمت


" في حضرة الصمت "

أرغب بالكتابة.. إلا أنني لا أستطيع.

كم يبدو الأمر مضحكًا حين يُقال هكذا، مجردًا، بلا تبرير أو زخرفة.

لكن هذه هي الحقيقة — حقيقة لا أملك أن أنكرها، ولا أقدر أن أفسرها.

أجلس أمام الورقة، كأنني أراهنها على من سيكسر صمته أولًا. هي تلوّح ببياضها المستفز، وأنا ألوّح بنيّتي الطيبة.

وأظل هناك، معلّقة بين جُملٍ لم تُولد، وكلمات تعرف طريقها لكنها تأبى الخروج.

أفكر أحيانًا:

ماذا لو أن ما يمنعني ليس العجز، بل الخوف؟الخوف من أن تقول الكتابة ما لا أجرؤ على مواجهته؟

الخوف من أن تُخرجني الكلمات منّي، من قناعاتي الصغيرة، من صمتي الذي ظننته طمأنينة.

أتذكّر حينها قول كافكا:

“لا تكتب إلا إذا خرجت الكلمات من قلبك كخنجر يمزقك، فإن لم تكن كذلك، فلا تكتب”

وأنا… لا أريد أن أُمزّق.. ليس اليوم.. ليس بهذا الصمت المؤلم. أريد فقط أن أبقى هنا،في حضرة السكون،أراقب حيرتي كما لو كانت طائرًا مترددًا على حافة نافذة.

ربما تعود.

ربما الغد، أو بعده، سيجيء الخنجر ..أو تتسامح الكلمات. فالكلمات لا يصعب قولها إذا وجدت السبب.

أما الآن، فسأكتفي بالاعتراف:

أرغب بالكتابة وهذه الرغبة وحدها في زمن الصمت ، تشبه القصيدة.

قصيدة تحكي فوضى العواطف التي تبعثرت بيد الآخرين،تلك التي تحتاج إلى شخصٍ يصنع لك من العجز إيمانًا،إيمانًا لا يخرج إلا من قلبٍ عبقري.

د. صباح الجهني


دفاتر الحنين

  دفاتر الحنين حين يصبح الحب ذكرى لم تولد بعد ذاك الحب لا يموت. يتحول إلى ظلّ، إلى نغمة عابرة في لحظة صمت، إلى طرف غيمة تمرّ في السماء، ف...